Search

الرهبنة دعوة أم واجب

 

الرهبنة .....دعوة ام واجب؟

 

 

أصبح هذا السؤال يتردد كثيرا على ألسنة بعض الشباب الروحين والخدام الغيورين المباركين , الذين لهم غيرة متقدة لإرضاء خالقهم وخلاص نفوسهم , ولكنهم يقفون حيارى فى مفترق الطرق , يريدون أن يعرفوا فى أى طريق يسيرون , يريدون أن يتعرفوا على مشيئة الله الخاصة بتدبير حياتهم , يصرخون مع المرنم " عرفنى الطريق التى أسلك فيها لآنى إليك رفعت نفسى . انقذنى من أعدائى يارب إليك التجأت . علمنى أن أعمل رضاك لأنك أنت إلهى . روحك القدوس يهدينى فى أرض مستوية " (مز143: 8-10 ) , ومع موسى النبى حين قال " إن كنت قد وجدت نعمة فى عينيك فعلمنى طريقك حتى أعرفك "(خر33 :13 ).

 

يريدون أن يعرفوا هل طريقهم الذى اختاره لهم الرب والمناسب لاستعداداتهم والمؤدى إلى خلاص نفوسهم هو الرهبنة وحياة الصلاة والعبادة , أم الكهنوت وخدمة الرعاية فى العالم , أم الإنسان بتولا مكرسا للخدمة فى العالم , أم يتزوج ويكون أسرة مسيحية مباركة وبيتا مثاليا كبيت بريسكلا وأكيلا والكنيسة التى كانت فيه .

 

ويظل هذا السؤال يلح على الشباب طالب إجابة , ويظل الشباب بدوره يسأل , بل قد لا يكتفى بإجابة واحدة , وإنما يطرح السؤال على كثيرين , وقد يتلقى فى الغالب إجابات مختلفة مما يبلبل أفكاره ويشوش مفاهيمه .

 

وهنا نحاول بقدر الإمكان أن نلقى ضوءا على هذا الموضوع مع بعض التركيز على الدعوة الرهبانية بالذات , لعله يكون سبب راحة لكل .

 

معنى الدعوة والاختيار :

 

إذا أردنا أن نتعرف على رأى الكتاب المقدس – باختصار – فى موضوع الدعوة والاختيار , تقابلنا آية الرسول بولس فى رسالته إلهى أهل رومية " الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرا بين أخوة كثيرين . والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضا " (رو 8 : 29, 30 ).

 

ومع أن الرسول كان يتكلم عن الدعوة والاختيار بخصوص الخلاص ألا أنه يمكن أن نطبق هذه الآية على موضوع الدعوة والاختيار بالنسبة للرهبنة .

 

"الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضا ".

 

الذى نلاحظه هنا بحسب تسلسل الكلام أن سبق المعرفة سابق للتعيين وسبق التعيين سابق الدعوة والاختيار . ولهذا فإن التعيين والاختيار مبنى على سبق المعرفة , أى أن الذين سبق الله بمعرفته الإلهية غير المحدودة فعرف أنهم سوف يلبون دعوته للرهبنة مثلا ورأى فيهم الاستعدادات والمؤهلات الازمة لحياة العبادة والصلاة , سبق فدعاهم واختارهم للرهبنة , والذين سبق فرأى أنهم يحملون استعدادا لعمل الكهنوت فهؤلاء سبق فدعاهم واختارهم للكهنوت.....وهكذا .

 

الله يعرف كل شئ قبل أن يكون ويعرف كل شخص قبل أن يولد " يارب قد اختبرتنى وعرفتنى . أنت عرفت جلوسى وقيامى . فهمت فكرى من بعيد . مسلكى ومرضى ذريت وكل طرقى عرفت . لأنه ليس كلمة فى لسانى إلا وأنت يارب عرفتها كلها .... عجيبة هذه المعرفة . فوقى ارتفعت لا أستطيعها "(مز139: 1-6)

 

"لأنك اقتنيت كليتى . نسجتنى فى بطن امى .... لم تختف عنى عظامى حينما صنعت فى الخفاء ورقمت فى أعماق الأرض . رأت عيناك أعضائى وفى سفرك كلها كتبت يوم تصورت , إذا لم يكن واحد منها " (مز139: 13-16 ) . ويقول المرنم فى مزمور آخر " من السموات نظر الرب رأى جميع بنى البشر . من مكان سكناه تطلع إلى جميع سكان الأرض . المصور قلوبهم جميعا . المنتبه إلى كل أعمالهم " (مز33 : 13-15) . الله كما يعرف الماضى كله فانه يعرف المستقبل كله. هو يعرف مقدما ظروف كل شخص واستعداداته . يعرف كل واحد باسمه (خر33 : 12) .

 

كيف يعرف الإنسان انه مدعو للرهبنة ؟

 

يدرك الشخص أنه مدعو للرهبنة . وأن الرهبنة هى أسلم الطرق المناسبة لخلاص نفسه وخيره الروحى والنفسى , إذا فحص نفسه وظهرت عنده الميول والاستعدادات الآتية :

 

1 – حب كبير لحياة البتولية واشتياق عظيم لنوال إكليلها , إعجاب عظيم بجوانب البتولية فى حياة الرب يسوع والقديسة العذراء مريم , وأنبياء العهد القديم مثل إيليا وإليشع وارميا . بركة البتولية ليوحنا المعمدان ويوحنا الرسول البتول والقديس بولس الرسول . إعجاب خاص ووقفات طويلة وتأمل مشبع عند الآيات التى تمتدح البتولية وتدعو إليها , مثل كلمات الرب يسوع عن البتولية : ليس الكل يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطى لهم من فوق (معتبر البتولية عطية صالحة وموهبة تامة نازلة من فوق من عند أبى الأنوار ) لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا ويوجد خصيان خصاهم الناس . ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات (ثم دعا الرب وأهاب بكل مؤمن يجد فى نفسه استعدادا واشتياقا لحياة البتولية – وما الرهبنة إلا بتولية عابدة مصلية – أن يقبل إلى هذه الحياة ويعتنقها ) من استطاع أن يقبل فليقبل (مت 19 : 11, 12) وطبعا له أجرة وإكليله .

 

أيضا يجب ويتأمل فى كلمات بولس الرسول : حسن للرجل أن لا يمس امرأة (أى لا يعرفها معرفة الزواج ) . أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا (غير المتزوجين ) – غير المتزوج يهتم فى ما للرب كيف يرضى الرب , وأما المتزوج فيهتم فى ما للعالم كيف يرضى امرأته – إن بين الزوجة والعذراء فرقا , غير المتزوجة تهتم فى ما للرب كيف ترضى الرب لتكون مقدسة جسدا وروحا وأما المتزوجة فتهتم فى ما للعالم كيف ترضى رجلها . هذا أقوله لخيركم ليس لكى ألقى عليكم وهقا (نيرا) بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب عن دون ارتباك (1 كو 7).

 

كما يجد فى نفسه نهما خاصا لقراءة كل كتاب روحى يتكلم عن البتولية وبركاتها أو الرهبنة وكمالها , كما يجد الشخص فى نفسه خجلا طبيعيا وحياء مقدسا عند التكلم فى مواضيع الزواج والجنس بصفة عامة .

 

v  لا يعانى كبتا جنسيا أو انحرافا .

 

v  يعيش فى حياة طهارة داخلية فى الفكر والجسد والحواس أو على الأقل لديه الاستعدادات للجهاد لهذه الطهارة .

 

v  أنه رغم أن الزيجة مقدسة فى عينيه إلا أنه يفضل حياة التبتل والرهبنة لما فيها من تكريس أعمق وتفرغ أوفر لتحقيق كل المشتهيات الروحية وفيها الفرص السانحة للوصول إلى قمم الكمال المسيحى والاتحاد مع الرب , متذكرا قول الرسول " من زوج فحسنا يفعل ومن لا يزوج يفعل أحسن "(1كو 7 :38) .

 

2- يجد فى نفسه استعدادات للزهد وعدم التعلق بالأموال والمناصب والمراكز والصيت والشهرة متذكرا قول القديس الذى قال " أن أردت أن تكون معروفا من الله فحاول أن لا تكون معرفا من الناس " .

 

3- يجد فى نفسه استعدادا للزهد فى التعلق العاطفى وروابط اللحم والدم مع الأهل و الأقارب والأصدقاء مفضلا محبة المسيح والعيشة معه عن كل ما عداها متذكرا قول الرب " من أحب أباه أو أما أكثر منى فلا يستحقنى ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى " (مت 10 :37) وقول الشيخ الريحانى (محبة المسيح غربتنى عن البشر والبشريات) .

 

4- يجد فى نفسه استعدادا ومحبة للتأمل والصلاة والخلوة , ليتمتع بالرب يسوع فى حب وانطلاق , معتبرا أن أحسن وقت هو الذى يقضيه فى شركة ومناجاة حلوة مع حبيبه الذى يملأ عليه كل حياته وهو الرب يسوع متذكرا قول مار اسحق " من يحب المسيح يحب الحبس والجلوس فى القلاية " .

 

5- يجد فى نفسه استعدادا وحبا للصمت والهدوء وقلة الحركة وعدم الخلطة الكثيرة مع الناس وتضيع الوقت فى الكلام والحكايات فى الكلام والحكايات غير النافعة .

 

6- يجد فى نفسه استعدادا للاحتمال والصبر وسعة الصدر ,فبينما كان فى العالم ينفذ وصية المحبة الخادمة الباذلة , عليه فى الرهبنة أن ينفذ وصية المحبة المحتملة الصابرة , وهى أعلى درجة من سابقتها , متذكرا قول الرب يسوع " من لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقنى . ومن وجد حياته (أى دلل ذاته وأشفق عليها) يضيعها ومن أضاع حياته من أجلى (أى سحق ذاته وأذلها بالاتضاع والاحتمال) يجدها " (مت10 :38) . وقوله أيضا " بصبركم اقتنوا أنفسكم " (لو21 :19) . وقول الحكيم " يا ابنى إن تقدمت لخدمة الرب فهيئ نفسك للتجارب " .

 

7- يجد فى نفسه استعدادا للطاعة فى كل أمر والمشورة قبل كل عمل , وسرعة الاعتذار إذا وقع فى أى خطأ , وأن يتحلى بالتواضع والسهولة ولين العريكة . فبحسب خبرتنا , أن الذى لا يتميز ولا يحاول أن يقتنى هذه الفضائل يتحطم فى الرهبنة ولو باسم الحق .

 

8- جد فى نفسة استعدادا للنسك والصوم وعدم التلذذ بالمآكل والمشارب , محبا للتقشف وعدم القنية ولسان حاله يقول مع الرسول " أن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما " (1تى 6 : 8) .

 

هذا بالنسبة للإنسان المتقدم روحيا ويتوق أن يصل إلى الكمال المسيحى عن طريق الرهبنة , بعيدا عن العالم ودوامات الحياة التى كثيرا ماتغرق الناس فى العطب والهلاك .

 

أما بالنسبة لإنسان يعيش فى العالم وهو يرزح تحت خطايا معينة , ومن تلك الخطايا المحيطة بنا بسهولة , ويجد إنه رغم محاولاته الكثيرة والمتكررة للتوبة وقطع صلته بالخطية لا يستطيع إفلاتا , إما لضعف إرادته أو لتسلط العادة عليه أو لقوة وسيطرة مصدر الخطية عليه , أو لوجوده فى بيت أو بيئة مشبعة بالخطية ولا توجد ذكرى للفصيلة والقداسة فيها , أو الإغراءات الكثيرة التى يتعرض لهنا أثناء حياته اليومية . ويكون هذا الإنسان قد حاول كثيرا أن يحيا حياة التوبة والقداسة فى هذا الجو الخانق ولم يستطيع , بالنسبة لهذا تعتبر الرهبنة والهروب إلى البرية ليست دعوة بل واجب محتم , من أجل حياته الروحية وخلاص نفسه .

 

يهرب إلى البرية :

 

v  لكى يتخلص من الجو القاتل والمناخ الفاسد الذى يعيش فيه والذى يقتل الروح ويهلكها أبديا .

 

v  ثم لكى يتنسم فى البرية جوا نقيا مقدسا يحث على الفضيلة والطهارة والقداسة , بقدوة الرهبان وحياتهم وكلامهم . هناك فى الدير تحيا روحه فيه وتنتعش , ويحيا حياة التوبة عما فات من حياة الطيش والشر .

 

من كل هذا نستخلص أن الرهبنة دعوة للذين أحبوا الرب وتاقوا للمزيد من حبه وللاتحاد به ومنعهم العالم أو أعاقهم عن تنفيذ رغبتهم المقدسة هذه , فدعاهم الرب للرهبنة ليجدوا فيها المزيد من الوقت والفرص لتفريغ هذا الحب فى ذات الله بالخدمة المباشرة لله بالتسبيح والصلوات والنسك والالتصاق الدائم به . ثم هى واجب مفروض ومحتم لمن لا يستطيع أن يتوب ويقلع عن الخطية وهو فى العالم لسبب أو لآخر .

 

أمثلة للدعوات الرهبانية :

 

بسؤال بعض الآباء الرهبان عن كيفية دعوتهم للرهبنة , وبالاستماع إلى قصص وحوادث حدثت للآخرين نسرد الحقائق الآتية :

 

1 – قال لى أحد الآباء : قبل تخرجى من الدراسة كثيرا ما كانت تنتابنى أحلام اليقظة عن الزواج والأولاد والبيت والتالى ...ألخ . ولما تخرجت لم أوفق بسرعة إلى عمل , فكانت تجربة قاسية بالنسبة لى التصقت فيها بالرب طالبا معونته فى تدبير الوظيفة المناسبة لى , واظبت على الكنيسة وعلى الاعتراف والتناول , وما هو إلا فترة بسيطة حتى استجاب الرب لمسكنتى وتعينت فى وظيفة لم أكن أحلم بها ومن ملابسات وتفاصيل موضوع التعين عرفت أن يد الرب هى التى تعمل معى بقوة , فشكرت الرب وذهبت لاستلام عملى فى إحدى البلاد . وهناك وجدت زميلا فى العمل فى نفس خادم ممتاز و رائد اجتماع الشبان فى المدينة . عرفنى طريق الخدمة وأساليبها , فتتلمذت له وانخرطت فى سلك الخدمة , وكان عنده بعض الميول الرهبانية .

 

عشت فى الخدمة وقرأت الكثير من الكتب الروحية . فأخذت تتبلور عندى فكرة بسيطة عن البتولية ومدى نفعها للشباب فى الخدمة واستمرار علاقة الشركة القوية مع الرب بدون مانع ولا عائق , وأخذت تتبخر من ذهنى فكرة الزواج . كان أهلى يلاحقوننى بالخطابات فى موضوع الزواج وكنت أؤجل . كنت كل أجازة انزل البلد يفاتحوننى فى الموضوع فأتهرب بحجة أو بآخرى أو بتغير مجرى الحديث , فكنت أشعر بالخجل والحرج أثناء الحديث فى هذا الموضوع , أى موضوع الزواج , وأتنفس الصعداء حينما أفلت وأتخلص منه حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف للرهبنة طريقا , وحتى فكرتى عن البتولية لم يكن لها تخطيط أو هدف خاص , إنما غامضة ومبهمة . وسلمت الأمر ليدى ذاك الذى معه أمرنا .

 

جاء إلى صديقى سالف الذكر أحد أصدقائه وكان ينوى الذهاب إلى الدير إذ كانت عنده فكرة قديمة للرهبنة , وطرحا الموضوع أمامى على بساط البحث , صديقى أخذ الجانب السلبى وكأنه غير مقتنع بالرهبنة ودعوتها مع أن الأمر لم يكن هكذا طبعا وإنما ليختبر صدق عزيمة الطرف الآخر وثبات مبادئه – بينما الطرف الآخر أخذ يدافع عن الرهبنة وفلسفتها وروحانيتها مصرا على اقتناعه الكامل بالانخراط فى سلكها , وتكررت الجلسات والمناقشات . إلى هذا الوقت كنت أنا أجلس معهما مستعما فقط , وسرعان ما رأيت نفسى وقد انحزت للطرف المؤيد للرهبنة وتشبعت بالفكرة جدا , وطلبت إلى الرب لو يهئ لى السبيل إلى هذه الدعوة المقدسة .

 

وبعد فترة وجيزة ذهب عاشق الرهبنة إلى الدير , وطلبت أن أصحابه ولكننى اعتذرت مؤجلا الموضوع ألى أن تنضج الفكرة وأعمل الترتيب اللازم . ثم نقل صديقى وزميلى الآخر إلى مدينة أخرى , وبقيت أنا وحدى وقد ملك على فكر الرهبنة كل مشاعرى . أصبحت ألتهم التهاما كل كتاب يتحدث عن الرهبنة . فى هذه الفترة قرأت بستان الرهبان ونقلت بعض أقواله فى كشكول خاص , قرأت كتاب دراسات من تاريخ الرهبانية والديرية المصرية للدكتور حكيم أمين , وقرأت كتاب أديرة وادى النطرون للدكتور منير شكرى وقرأت كتاب انطلاق الروح لقداسة البابا شنودة الثالث وقرأت كتاب حياة أنبا أنطونيوس بقلم أثناسيوس الرسولى .

 

ظل صديقى الراهب الذى ذهب إلى الدير يراسلنى من هناك يشجعنى ويذكرنى بالموضوع كلما فترت همتى نتيجة هموم ومشاغل ومشاكل العالم ونتيجة حرب العدو للفكرة المقدسة . زرت الدير مرة لمدة أسبوع وهناك دبر لى الرب جلسة طويلة مع أحد الآباء الروحانيين فزادت الفكرة رسوخاً فى قلبى . غادرت الدير متمنياً اليوم الذى أعود فيه إليه بلارجعة إلى العالم .

 

ظللت سنتين تقريباً وأنا فى مد وجزر تتناوبنى الأفكار , بين الرهبنة والخدمة بين محبة الله ومحبة الوالدين , بين التكريس والوظيفة , وكان الموضوع هو شغلى الشاغل وموضوع الساعة فى كل صلاة وطلبة .

 

أخيرا فى ملء الزمان وفى الوقت المحدد من قبل الرب ,أعطونى إجازة فى العمل , لم أطلبها ولم أتوقعها إذ كنت راجعا من أجازة من شهر واحد تقريبا . فضلت أن أقضى هذه الإجازة الإجبارية فى الدير إذ كنت عند الأهل من مدة قريبة جدا .

 

ذهبت إلى الدير لمجرد قضاء إجازة إجبارية كما قلت , وفى الدير حصل العجب .

 

مجرد جلسة مع أحد الآباء الأفاضل , شجعنى وبدد ماتبقى عندى من مخاوف , وهون ما كان عندى من مشاكل كنت أحسبها معقدة وبلاحل . لاأنكر أن روح الله كان يعمل فى هذه الجلسة بطريقة عجيبة , وفى نهاية الجلسة قررت الاستقالة من عملى والسفر فورا لإحضار بعض كتبى وحاجاتى والعودة إلى الدير على عجل .

 

عملت كل شئ فى هدوء ثم رجعت إلى الدير هذه المرة ليس زائرا وهإنما طالب

 

هذا شكل من أشكال الدعوة الرهبانية على ماأعتقد .

 

2- سألت أبا اخر فقال لى : أحسست بحبى لحياة الرهبنة بعد أن قرأت كتاب "حياة الصلاة الأرثوكسية " عندما أصدره دير السريان العامر لأول مرة , كنت وقتها طالبا بالمرحلة الثانوية . كنت أجد تعزية كبيرة فى حياة الصلاة والخلوة , وكنت أفرح بالرب فرحا لاينطق به ومجيد . كنت أتعزى فى الجلوس معه بطريقة لايعبر عنها ظلت الفكرة معى حتى أنهيت المرحلة الثانوية , وبعد أن امتحنت الثانوية العامة وكانت النتيجة على وشك الظهور , حلمت حلماً وكأنى أسأل سكرتير المدرسة عن النتيجة فقال لى " مالك ومال النتيجة مش أنت هتترهبن " تعزيت وتشجعت من هذا الحلم .

 

ظهرت النتيجة ونجحت وشكرت الله , ودخلت الكلية وأقول الحقيقة أن فكرة الرهبنة وماتتضمنه من حياة البتولية والعفة والطهارة حفظتنى جداً فى هذه المرحلة الحرجة من حياتى الشبابية , حيث الاختلاط والعثرات فى الجامعة وغير الجامعة , مما طوح بالكثيرين من الشباب إلى حياة الانحراف والفشل .

 

وأخيرا تخرجت من الجامعة ومازالت الفكرة متملكة على . عملت فى عدة وظائف, وكنت أتردد على الأديرة بين الحين والآخر .

 

أخيرا قررت الذهاب إلى الدير للرهبنة , ولكن بعد بضعة أيام فى الدير هزمت من بعض الأفكار فنزلت إلى العالم , وفى العالم قررت نبذ فكرة الرهبنة وكنت أحاول طردها من ذهنى , حتى حدث مرة أن اضطررت أن أركب الترام وهو سائر بسرعة هادئة فوقعت تحته وتعالت صيحات الناس حادث حادث . الأخ مات .

 

فوقف الترام وأخرجونى من تحته ولم تصبنى سوى كدمات بسيطة لا تستحق الذكر

 

, وقال لى بعض الناس كنا نراك بينما تقترب من العجلات كأن شيئا يبعدك عنها . لقد كتب الله لك عمرا جديدا .

 

بعد هذه الحادثة التى هزت كل كيانى عدت إلى نذرى القديم مع الرب وهو فكرة الرهبنة . قلت إن كانت الرهبنة موت معنوى عن العالم وشهواته , هناك فى الدير تحت أقدام المسيح , فأنا كنت على وشك أن أموت فعلا , ولكن تحت عجلات الترام . واعتبرت هذه الحادثة إنذارا من الرب لى بأن أوفى نذرى لأن الحكيم يقول " أن لاتنذر خير من أن تنذر ولاتفى " (جا 5:5).

 

وماهى إلا فترة بسيطة حتى رحلت إلى الدير للرهبنة , عازما من القلب أن أحيا هذا العمر الجديد الذى كتبه لى الرب فى طاعته ومرضاته متمتعا بحبه وشركته المقدسة " فما أحياه الآن فى الجسد فإنما أحياه فى الإيمان , إيمان ابن الله الذى أحبنى وأسلم نفسه لأجلى " (غل 20:2) .

 

3- قص لى راهب اخر قصة مجيئه إلى الدير , قال : كنت جنديا فى الجيش واشتركت كتيبتى الحربية فى إحدى المعارك مع العدو , انهال علينا رصاص الأعداء وطلقات مدافعه كوابل المطر , انبطحنا كلنا أرضا , لم يفدنا ذلك شيئا إذ كنا فى مكان خال من أية سواتر . أخذ الرصاص يحصد من حولى الضباط والجنود دون تمييز . كان الرصاص يمر فوق رأسى بما لايزيد عن سنتيمترات قليلة وأنا منبطح على الأرض . فى هذه اللحظات صليت إلى الله وتشفعت بالسيدة العذراء مريم ونذرت نذرا إن نجوت من هذه الضائقة سأهب حياتى كلها للرب أخدمه فيها , بالطريقة التى يراها هو حسب مسرة مشيئته .

 

وساعتها وجدت وكأن يدا تظلل رأسى وتحميها من الرصاص وظلت هكذا حتى انتهى الهجوم وإطلاق الرصاص , فتنفست الصعداء وقمت شاكرا الرب الذى نجانى من موت محقق وعملت واجبى نحو زملائى الذين حصدهم الرصاص الغادر وهم بين جرحى وقتلى .

 

لما أنهيت خدمتى العسكرية أخذت أصلى للرب أن يهدينى إلى أحسن طريق لوفاء نذرى , وإذ وجدت أنه ليس لدى إمكانيات الخدمة والتكريس فى العالم قررت أن أترهب وأكرس حياتى لعبادة الرب وخدمته بالعبادة والتسبيح .

 

وهكذا تمم الرب شهوتى وجئت إلى الدير وماهى إلا أشهر قليلة حتى ليست الزى الرهبانى المقدس .

 

4- روى لى أحد الآباء الرهبان عن راهب اخر قال : حينما بلغ سن الشباب أراد أن يهجر العالم ويترهب , فرفض أبواه الفكرة رفضا باتا وأسرعا بزواجه رغما عنه , بعد فترة توفيت زوجته فعاوده فكر الرهبنة ثانية , فرفض أبواه أيضا ولكن حدث أنه مرض مرضا شديدا وأشرف على الموت حتى خرجت من جسده روائح نتنة , وقطع كل أمل فى شفاءه . ولكن الرب الحنون مد إليه يد الشفاء فشفى , وبعد أن تملك صحته جيدا عاد ليأخذ إذن والديه ليذهب إلى أحد الأديرة ليترهب , وهنا سمح له الوالدان قائلين : إن كانت الرهبنة موت عن العالم بالبعد عنه وعن شهواته وملذاته فأنت قد مت حقيقية وأنتنت رائحتك . رأينا بعيوننا كل ما حدث وقطعنا الأمل فى شفائك , والآن وقد شفيت فهذا عمر جديد وهبه لك الرب . فاذهب واقضه فى الدير فى عبادة الرب ورضاه , والرب يقويك ويكمل جهادك إلى النفس الأخير .

 

وهكذا ذهب وترهب وأصبح راهبا فاضلا .

 

5- وتقول كاتبة كتاب " أمنا رحمة " فى خطابها إلى إحدى صديقاتها لها نمط الدعوة التى دعاها بها الرب للرهبنة فتقول " أنت تعلمين أننا عندما كنا فى السنة الثانية بالكلية ذهبنا معا لزيارة بعض الكنائس الأثرية . كانت رحلة ليس إلا , قصدنا بها زيارة المعرفة . كانت فكرة لست أدرى ممن , ولكنها فى الحقيقة كانت دعوة إلهية لى .

 

فى ذلك اليوم السعيد كان الله يضع يده برفق على باب القلب ويقرع ويقول " إن سمع لى أحد أدخل إليه وأتعشى معه وهو معى " . أما أنا فكنت صماء لا أسمع , عمياء لا أبصر , لكنه لفرط محبته أظهر لى قبسا من نور كان هو طريق الهداية .

 

لقد تجولنا حتى تعبنا وسط الكنائس الأثرية وأخيرا قادتنا أقدامنا إلى بناء بسيط هو دير " للعذارى " .

 

وفى الدير تعرفت هذه الفتاة على " أمنا رحمة " الراهبة المثالية فى بساطتها وتواضعها وبذلها وخدمتها للآخرين . وعن طريقها أحبت الدير وأحبت الرهبنة وأخذت تترددعلى الدير كثيرا حتى تخرجت من الكلية وذهبت إلى الدير وترهبت بعد أن تركت عملها ومستقبلها كطبييبة .

 

هذه نماذج من الدعوات الرهبانية على الطبيعة ومازال أصحابها أحياء يشهدون بأن الرهبنة دعوة . شعروا بدعوة الرب لهم لاستعدادات وميول مناسبة أوجدها فيهم وهم بدورهم لبوا الدعوة واستجابوا لها أو بالحرى أسلموا نفوسهم للرب فتمم فيهم مسرة إرادته .

 

سبب فشل بعض الرهبان وارتدادهم :

 

نسمع أحيانا عن بعض الرهبان الذين يتركون الرهبنة ويحنثون بنذرهم ويرتدون إلى العالم منهم من يتزوج ويطلق الرهبنة تماما . ومنهم من يؤنبه ضميره فيعود بعد فترة طالت أو قصرت إلى ديره أو إلى دير أخر وفى هذه الحالة لايصلى عليه طقس رسامة الراهب ثانية بل يلبس ثوب الرهبنة بمجرد قبوله فى الدير ورضى المسئولين عنه .

 

ولفشل بعض الرهبان وتركهم للحياة الرهبانية بعض الأسباب نورد منها :

 

1-بعض الرهبان قد يلجأون إلى الأديرة كإغاظة لأهلهم الذين يقسون عليهم أو لأن أهلهم لم يوافقوا أن يزوجوهم الزوجة التى يريدونها , أو يحاولون إجبارهم على الزواج من فتاه تروق لهم . فيهربون إلى الدير وهناك يتصنعون الروحانية والطاعة فى فترة الأختبار , ويخفون عن المسئولين بالدير السبب الرئيسى لمجيئهم , فينخدع فيهم المسئولين بالدير ويلبسونهم الزى الرهبانى , وسرعان ماتظهر حقيقتهم ولايحتملون حياة العزلة والبعد عن العالم أو بعض التجارب التى تأتى عليهم , فيضيقون بالحياة الرهبانية وبالدير فيرتدون إلى العالم بالعار والخزى .

 

2-بعض الرهبان يأتون إلى الرهبنة كسلم للوصول إلى الرتب الكهنوتية ومراكز الرئاسة فى الكنيسة فإذا لم تتم لهم أمنيتهم ضاقواذرعا بالرهبنة ولعنوا حظهم وتركوا الرهبنة ساخطين .

 

3-حتى المدعوين دعوة قلبية مقدسة للرهبنة والآتين إليها بكل قلوبهم بقصد التعبد والنسك إلى آخر حياتهم , قد يرتدون ولا يكملون الطريق إلى نهايته ,

وذلك لأن الدعوة للرهبنة كالدعوة للخلاص . ففى قضية الخلاص , الله يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ولكنه إذ خلق الإنسان حراً ,

 

ويحترم حريته وإرادته وضع فى يده الاختيار فى قضية خلاصه , ترك له الحرية بكامل إرادته ليختار لنفسه الخلاص الأبدى أو الهلاك الأبدى . فيقول الرب مخاطباً أورشليم "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 37:23) . ومثال ذلك أيضا توبيخ الرب لليهود إذ قال لهم :"ولاتريدون أن تأتوا إلى لتكون لكم حياة "(يو40:5). ومثال ذلك الذين "رفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم " (لو30:7). ويخبرنا الكتاب المقدس عن كثيرين بعد أن ابتدأوا بالروح قد كملوا الجسد (غل3:3). وصاروا أعداء صليب المسيح . نكثوا عهدهم وارتدوا عن دعوتهم واختيارهم مثل يهوذا الاسخريوطى الذى أحب الفضة أكثرمن سيده وأخيرا انفصل عن الرب وعن جماعة التلاميذ , ويخبرنا عن نيقولاوس الشماس الذى ارتد عن الدعوة المقدسة وأصبح رأس بدعة النيقولاويين التى يبغضها الرب ,عن ديماس أحد مساعدى بولس الذى ترك الخدمة ومعية الرسل إذ أحب العالم الحاضر .

 

من هذا نعلم أن الدعوة فى حد ذاتها لاتضمن للإنسان الاستمرار فى الجهاد ثم نوال الخلاص الأبدى إذا هو أهمل وتهاون ولم يسلك كما يحق للدعوة التى دعى إليها .

 

هكذا فى الرهبنة , فالراهب الذى لايسلك حسب مقتضيات الدعوة الرهبانية وحسب الناموس الرهبانى الذى وضعه الآباء بإرشاد الروح القدس من موت عن العالم وطاعة وتكميل قوانين الصلوات والتسبحة والقراءة والتأمل وشغل اليد , بعد فترة طالت أو قصرت يصيبه الملل والضجر, يصيبه الجفاف الروحى فلا يستطيع الثبات فى قلايته , فيحب المحادثات والتقاط الأخبار ونقلها من واحد لآخر ويتدخل فى السياسات ويميل إلى الرئاسات وبذلك يا يجلب على نفسه التجارب وإذ ليس له أساس روحى متين يؤهله لاحتمالها يضيق ذرعا بالدير فلا يستطيع الثبات فيه فيرتد إلى العالم أو ينتقل بين الأديرة دون أن يستقر فى دير ما . وأخيرا إذ تبرد من قبله محبة وحرارة الرهبنة وغلوتها الأولى , يترك الرهبنة ويخلع زيها المقدس ويصبح ه علمانيا حمانا الله من مصير هكذا !