الصفحة الرئيسية
الأحد الأول من شهر هاتور: مثل الزارع، كلمة الله وأنواع التربة
موسم الزراعة يبدأ في مصر في الأسبوعين الأولين من شهر هاتور بحسب نظام الزراعة القديم، فتقدم القراءات مزامير مملوءة بالرجاء والبهجة، تناسب الموسم. في عشية، "ظهرت عيون المياه وانكشفت أساسات المسكونة، دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت، فسمع صوتي". ومزمور باكر، "تعهدت الأرض ورويتها، وأكثرتها بغنى، وامتلأ نهر الله مياهاً، هيأت طعامهم لأن هذا هو استعدادهم. أما مزمور القداس فهو طلبة، "فلترو أتلامها ولتكثر أثمارها، وتفرح بقطراتها وتنبت، بارك إكليل السنة بصلاحك، وبقاعك تمتلئ من الدسم" (كل الشواهد بالجدول). كل هذه المزامير بقدر ما تشير إلي الأرض والزرع والماء والثمر، فهي أيضا تشير للثمر الروحي نتيجة لعمل كلمة الله في النفس والجسد التي هي الأرض. وفي ذلك أيضا إشارة لسر التجسد.
مثل الزارع من أهم أمثال السيد المسيح وأولها، حيث ذكرته الأناجيل الثلاث، وخصته بموقع الصدارة بكل إنجيل. "قال لهم أما تعلمون هذا المثل فكيف تعرفون جميع الأمثال؟" (مر13:4)، يوضح إنجيل عشية أهمية المثل لفهم باقي الأمثال حيث يشرح فيها السيد المسيح تدابير الخلاص. ولأهمية المثل قام السيد المسيح بتفسيره بنفسه.
وتقدم الكنيسة هذا المثل في قراءاتها عند بدء الحديث عن سر التجسد، مما يشير إلى أهميته في فهم هذا السر، وتقوم بعرض المثل من كل الأناجيل على مدى الأسبوعين الأولين من شهر هاتور، والسابقين على بدء صوم الميلاد.
الزرع هو كلمة الله التي يزرعها في جسدنا الترابي، البولس يقول، "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا" (2كو 7:4). التربة بطبيعتها ليست بها حياة، اللهم إلا الشوك القاتل للزرع الجيد، إلي جانب الحجارة المعوِّقة للنمو، "أعدوا طريق الرب واصنعوا سبله مستقيمة". أعدوا طريقا للرب في التربة لتستقبل الكلمة الحاملة للحياة الأبدية. فهذا النداء هو تنبيه للنفس لتعد موضعاً لراحة الرب فيها.
الكاثوليكون، يقدم لمثل الزارع، فيؤكد أن الجمع بين الشر والخير غير ممكن، "ألعل ينبوعا ينبع من نفس عين واحدة العذب والمر هل تقدر يا إخوتي تينة أن تصنع زيتونا أو كرمة تينا ولا كذلك ينبوع يصنع ماء مالحا وعذبا" (يع 3: 11-12).
"خرج الزارع ليزرع زرعَهُ" ...(لو 5:8) الزرع هو كلمة الملكوت بحسب متى، والكلمة بحسب مرقس، وكلام الله بحسب لوقا. يصف لوقا الزرع إنه زرعه، فهو يخص الله بشكل شخصي، أي كلمته. الزارع يبذره للكل دون استثناء، لكن الاستجابة مختلفة بحسب استعداد الأرض. الذين يؤمنون بسبق تعين الله لنهاية الإنسان يقولون أن الطبيعة تحدد نهاية الإنسان. فالله خلق آنية للكرامة وآنية للهوان، أرض محجرة، وأرض بها شوك، وأرض جيدة، فالخلاص مرتبط بطبيعة ليس لنا فيها اختيار هذا المنطق المغلوط لا يتوافق مع المثل، فالله أعطى الجميع نفس الفرصة بأن ألقى بذاره بكل نفس. والنفس حرة، لها حرية الرفض أو القبول، كما لها إمكانية العمل فمن يعمل في أرضه ويحرثها ويرويها وينقيها من الأشواك والحجارة يجنى ثمر عمله. لكنهم يرفضون العمل!
خرج الزارع ليزرع فهل أعددت أرضك لاستقبال زرعه فيك؟ ما هو استعداد أرضك، لقبول كلمته؟ وأي نوع من الأراضي تقع فيها نفسك؟ يلزم أن نمتحن أنفسنا.
النوع الأول هو الطريق المطروق، فهو منفتح لكل رأي ومداس بكل فكر جديد فبقدر انفتاحه السطحي بقدر انغلاق مسامه فلا تقبل البذور، التي هي كلمة حق المسيح. فتظل على السطح حتى تأتي أفكار العالم كغربان تلطقتها دون أن تترك في نفسه أثرا.
حل مشكلة الطريق هو الحرث بالتجارب أولا، ثم التوبة، وأخذ أمور الله بجدية.
النوع الثاني عكس الأول. الإنسان ذو الفكر المتحجر المنغلق، يفرح بالتدين بطريقة عاطفية، ليضعه في قالب مغلق، يعفيه من الحرية التي يجد فيها معاناة ومغامرة هو في غنى عنها. يميل للتعصب والتزمت ليرضي شعوره بالتدين بينما هو جاف من الروحانية، لأن ليس له عمق أرض كما يصفه المسيح. شمس التجارب تحرقه وتجفف ما له من خضرة على السطح. انغلاق فكره يضعه في مآزق إيمانية كثيرة فيصطدم بالواقع الذي يتطلب اتساع النفس. يخاف الحرية ويتمزق بسرعة عند مواجهة المواقف.
حل مشكلته في الصلاة والتسبيح وتجنب الحوار. محاولة تفتيت تحجره قد يضر به. محبة الله تساعده على تحمل التجارب، "..الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو13:10). النوع الثالث هو أكثر الأنواع شيوعا وهو الإنسان الطبيعي الذي يعيش زمنه دون اهتمام جاد بحياته الروحية، فتتراكم عليه هموم العالم الناتجة عن الشهوات. ويتقبل كل ما يلقيه إبليس في حقله من أشواك وأفكار دون فحص أو مقاومة. في نفس الوقت يتلقى كلمة الله فتحدث صراع نفسي داخلي إن لم يحسمه تتأخرالحالة تدريجيا. وتبدأ التربة تفقد مساميتها واستعدادها لقبول كلمة الله إلى أن تبلغ لحالة النوع الأول أي الطريق. هذا النوع لو وجد الرعاية اللازمة بالحرث والتنقية من الأشواك الضارة يتحول إلى تربة جيدة، لكن بوضعه الحالي، وبحسب لوقا، "لا ينضجون ثمرا"
التربة الجيدة تعطي ثمراً روحياً، "والذي في الأرض الجيدة هم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويثمرون بالصبر". فالتربة الجيدة ليست كذلك بذاتها، بل بحفظ الكلمة والمثابرة في الجهاد حتى الثمر، وبقدر العمل بقدر الثمر، فهنالك درجات للإثمار بقدر الانفتاح لقبول الكلمة والعمل بها ،"ويثمرون واحد ثلاثين وآخر ستين وآخر مئة". الله يقبل حتى ثلاثين في المائة.



