Search

الرهبنة والكتاب المقدس

الرهبنة والكتاب المقدس

إن كان الكتاب المقدس لم يذكر صراحة كلمة " رهبنة " و"رهبان "ذلك لأن فكرة الرهبنة لم تكن قد تبلورت بالمعنى المفهوم حاليا , لكن الكتاب المقدس قدم لنا بعض الأبطال الذين قدموا حياتهم كلها كذبيحة حيه مرضية على مذبح العبادة والنسك , أحبوا الصلاة وحولوها إلى حياة , عشقوا الهدوء والسكون وحياة الالتصاق بالله ,كما عاشوا بالبتولية والطهارة كل أيام حياتهم وهذه الفضائل هى من أهم مقومات الرهبنة وأركانها الأساسية , لذلك أحبهم الله وأجزل لهم النعم وحباهم بالبركات ومنحهم روح النبوة وعمل العجائب والمعجزات .

أولاً:العهد القديم :

فإذا القينا نظرة على العهد القديم نجد أن بعض الأنبياء عاشوا بالبتولية والعبادة والتقشف وسكنى البرارى , تماما كما توصى نواميس الرهبنة وقوانينها .

فمثلا :

إيليا النبى :

v  عاش القديس إيليا النبى بتولا , فلم يذكر الكتاب المقدس أنه تزوج .

v  عاش حياة التجرد , فحينما حل القحط بأرض إسرائيل أمره الرب أن يختبئ عند نهر كريت , وكان الرب يعوله بواسطة الغربان , وكان يشرب من ماء النهر , وبعد أن جف النهر أمره الرب أن يذهب إلى صرفة صيدا , وهناك كان الرب يعوله بواسطة امرأة أرملة مدة طويلة من الزمان . كان إيليا يحب سكنى الجبال حيث الهدوء والشركة مع الله , وكان لاينزل إلى المدينة إلابناء على أمر إلهى لأداء رسالة معينة , فعندما قتل أخاب الملك نابوت البزرعيلى وورث كرمه "كان كلام الرب إلى إيليا التشبى قائلاً : قم انزل (أى انزل من على الجبل ) للقاء أخاب ملك إسرائيل الذى فى السامرة , هوذا هو فى كرم نابوت الذى نزل إليه ليرثه " (1مل 17:21-18) .

ولما مرض أخزيا الملك أبن أخاب (أرسل إلى أيليا النبى رئيس خمسين مع الخمسين الذين له , فصعد إليه وإذا هو جالس على رأس الجبل " (2مل 9:1) ولما توسل الملك إليه ثلاث مرات أن يأتى إليه " قال ملاك الرب لإيليا انزل معه . لاتخف منه فقام ونزل معه (أى مع رئيس الخمسين الثالث ) إلى الملك " ( 2مل 15:1).

وحتى لما هددته إيزابل الملكة بالقتل وأراد أن يهرب من وجهها , لم يهرب إلى أية مدينة أو قرية نائبة , بل هرب إلى البرية ومشى على قدميه أربعين نهارا وأربعين ليلة صائماحتى أتى " ...إلى جبل الله حوريب ودخل هناك المغارة وبات فيها " (1مل19 : 9،8) .وهناك فى المغارة فى أعماق البرية ظهر له الرب فى الصوت المنخفض الخفيف وكلفه بمهام جديدة خطيرة ليؤدبها .

v  كانت هيئة إيليا هيئة رجل جبال ناسك ومتقشف , فعندما وصف رسل آحاز شخصية إيليا لملكهم قالوا : " أنه رجل أشعر متمنطق بمنطقة من جلد على حقوقيه " (2مل 8:1) فعرفه الملك على التو , وقال : هو إيليا التشبى .

v  كان إيليا رجل صلاة وعبادة , وكانت له شركة قوية مع الله فعندما أصعد الذبيحة على جبل الكرمل وصلى للرب " ... استجبنى يارب استجبنى .. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التى فى القناة "

(1مل 37:18،38) . وكان يوماً مشهودا كاد فيه إيليا أن يقضى على عبادة البعل نهائيا من إسرائيل .

بعد ذلك صعد إلى رأس جبل الكرمل وخر إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه وصلى للرب سبع مرات حتى اسودت السماء من الغيم والريح وكان مطر عظيم (1مل 45:18).

وبصلاة ايليا النبى أيضا نزلت النار وأكلت رئيس الخمسينين اللذين أرسلتهما إليه الملك أخزيا مع جنودهما (2مل 1).

ولصلته القوية مع الله ودالته العظيمة عنده وصلاته المستجابة لديه أقام الرب ابن الأرملة التى كان النبى نازلا عندها من الموت " فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش " (1مل 22:17) " فقالت المرأة لإيليا هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب فى فمك حق " (1مل 24:17) .

أليشع النبى :

وقد اقتدى أليشع بسيرة معلمه إيليا النبى , حذا حذوه وسار سيرته النسكية.

v  فقد ظل اليشع بتولا لم يتزوج طوال حياته .

v  كما أحب عيشة الجبال مثل معلمه واتخذ جبل الكرمل مقرا دائما له ,وإلى هذا المقر كان يأتى كل من يطلب مقابلة النبى (2مل 25:4) . وما كان ينزل إلى المدينة إلا لمهام خدمته كنبى ومعلم للشعب ولبنى الأنبياء .

v  عاش أليشع النبى حياة التجرد والزهد مثل معلمه , فلم يكن يقتنى فى مسكنه شيئا , فقد اجتمع عنده مرة بنو الأنبياء ولم يكن فى مسكنه مايقدمه لهم ,فخرج الغلام وجمع يقطيناً بريا ملء ثوبه وطبخه لهم فأكلوا (2م 38:4-41).

وكان يعيش على صدقات المؤمنين وعطاياهم " فقد جاء رجل من بعل شليشة وأحضر لرجل الله خبز باكورة عشرين رغيفا من شعير وسويقا فى جرابه "

(2مل 24:4 ) . وإذا كان عنده شعب كثير وليس لدبه ما يقدمه لهم أمر أن تقدم هذه الأرغفة القليلة للشعب ليأكلوا " فقال خادمه : ماذا .هل أجعل هذا أمام مائة رجل ؟ فقال (اليشع ) :أعط الشعب فيأكلوا لأنه هكذا قال الرب يأكلون ويفضل عنهم . فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم حسب قول الرب " (2مل 43:4) .وعندما شفى نعمان السريانى ببركة صلواته وأراد أن يقدم له شيئا ً قائلا: " والآن فخذ بركة من عبدك " (2مل 5: 15) امتنع اليشع ولم يأخذ شيئا وألح عليه نعمان أن يأخذ فأبى (2مل 16:5) مؤمنا أن الرب الذى خلقة لاينساه .

كان اليشع رجل صلاة وعبادة وله شركة قوية مع الرب . وكان يحلو له دائما أن يقول " حى هو الرب الذى أنا واقف أمامه " (2مل 16:5) .

وقد عمل بصلاته الكثير من المعجزات مثل إبراء المياه فى أريحا

(2مل 22،21:2) وتكاثر الزيت فى بيت الأرملة (2مل 1:4-7) وإقامة ابن المرأة الشونمية من الموت (2مل 20:4-37) وإبراء الطعام مما فيه من موت (2مل 38:4-42) وإشباع الجموع من خبزات قليلة (2مل 42:4-43) وإبراء نعمان السريانى من برصه (2مل 14:5) . ومعجزات أخرى كثيرة كان الرب يكملها بصلاة صفيه اليشع .

وأرميا النبى أيضاً:

تحلى بالكثير من الفضائل الرهبانية الجميلة :

v  فقد عاش بتولا طول حياته ، وقد صدر له الأمر الهى بذلك صريحا واضحاً قائلاً " لاتتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات " ( أر 1:16-2) .

v  كما كان أرميا محبا للسكنى فى البرارى ، ولو انه لم تتح له هذه الفرصة ، وكان يقول "ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم " (أر2:9) . وذلك كما قبله المرنم فى اشتياق حار لسكنى البرية والتمتع بما فيها من الخلوة مع الله والتمتع بالجلوس عند قدميه " ليت لى جناحا كالحمامة فأطير واستريح ، ها أنذا كنت أبعد هارباً أبيت فى البرية . كنت أسرع فى نجاتى من الريح العاصفة ومن النوء (أن من الهموم والاضطرابات التى فى العالم والتى كثيراً ماتنسى الإنسان أمر خلاصه وأبديته )" (مز6:55-8) .

v  كان أرميا محباً للتواضع والصمت والهدوء والتوبة . وهذه فضائل رهبانية عالية ، اسمعه يقول : جيد للرجل أن يحمل النير فى صباه . يجلس وحده ويسكت لأنه وضعه عليه . يجعل فى التراب فمه لعله يوجد رجاء . يعطى خده لضاربه ، يشبع عارا لأن السيد لايرفض إلى الأبد فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه (مرا27:3-32) . ثم يقول : " لنفحص طرقنا ونمتحنا ونرجع إلى الرب لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى الله فى السموات " (مرا 40:3-41) .

v  كان ارميا رجل صلاة ودموع من الطراز الأول ، ومن يقرأ سفر المراثى الذى نظمه هذا النبى الباكى لرثاء أورشليم عند خرابها بواسطة جيوش الملك نبوخذ نصر يعرف مقدار حساسية نفس هذا النبى العظيم ونقاوة قلبه وكثرة دموعه ، اسمعه يقول :" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبى " (أر1:9) . وكان دائم الصلاة لله ويكرر عبارة "ثم صليت إلى الرب "

(أر 16:32)، وكان الرب يكلمه فماً لفم ، وكثيراً جداً ماترددت فى سفره عبارة " ثم صارت كلمة الرب إلى أرميا ".

ثانياً:العهد الجديد :

وإذا تصفحنا العهد الجديد من الكتاب المقدس نجد أيضاً شخصيات بارزة عاشت بالبتولية والعبادة والتأمل ، وهى من أهم أركان الرهبنة مثال ذلك :

القديسة الطاهرة مريم العذراء

الحمامة الحسنة الهادئة ، اليمامة النقية الطاهرة ، فيخبرنا تاريخ حياتها أن والدها قدماها إلى الهيكل عندما أصبح سنها ثلاث سنوات ، ومكثت بالهيكل عابدةى بأصوام وصلوات وخادمة للمقاس الإلهية فى وداعة وهدوء ، وكانت تأكل خبزا من أيدى الملائكة يحضرونه لها فى الهيكل بدل أكلها الذى كانت توزعه على الفقراء .

وظلت هكذا إلى أن أصبح سنها اثنتى عشرة سنة ، فسلمها الكهنة إلى يوسف النجار كخطيبة له ، وظلت العذراء مريم فى بيت يوسف النجار الفقير بتولا طاهرة هادئة عابدة إلى أن بشرها الملاك بميلاد مخلص العالم منها . ونلاحظ غالباً فى الصور والأيقونات التى تمثل لحظة البشارة أن مريم كانت واقفة تصلى ، كانت فى وضع صلاة حين دخل إليها الملاك وبادرها بالتحية العجيبة قائلاً:"السلام لك أيتها الممتلئة نعمة ، الرب معك ، مباركة انت فى النساء " (لو28:1).

ولما ظهر لها الملاك وبشرها لم تضطرب من منظره أو رؤياه لأنها كانت متعودة على رؤية الملائكة منذ كانت تخدم فى الهيكل ، ولكن الكتاب يخبرنا أنها "أضطربت من كلامه ، وفكرت ما عسى أن تكون هذة التحية " (لو29:1)لأن اتضاعها لم يحتمل مثل هذه من الملاك .

والتسبحة التى قالتها العذراء فى بيت زكريا الكاهن خير دليل على روح الصلاة والعبادة والاتحاد بالله التى كانت تتمتع بها .

وحينما ولدت العذراء طفلها الإلهى العجيب , لم يحل ميلاده بتوليتها, ولكنها كما تعلمنا قسمة الميلاد " ولدته وهى عذراء وبتوليتها مختومة "وذلك تقديرا من الرب للبتولية وإكراما لمجدها العظيم .

عند ميلاد المخلص رأت وسمعت الكثير من العجائب والمعجزات , ولكنها احتفظت بصمتها وهدوئها , مصلية شاكرة الرب على نعمة الخلاص الذى أرسله إلى العالم , وعلى تلك النعمة الخاصة التى حباها بها الله أن جعلها أما لذلك المخلص الآتى لفداء العالم , ويخبرنا عنها الكتاب المقدس قائلاً :" وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور فى قلبها " (لو51:2) .

" كانت العذراء تعيش مع الرب حوادثه متألمة وكان وقتها كله تستغرقه فى لذة تأمل ومتابعة أحداث الخلاص المجيد , ولم يبق لديها وقت تتكلم فيه أوتحدث الناس عن نفسها "

وحتى بعد صلب المخلص وقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات وحلول الروح القدس عليها وعلى بقية التلاميذ للكرازة والتبشير ,بقيت العذراء فى بيت يوحنا هادئة عابدة مصلية متأملة إلى أن تنيحت بسلام وانتقلت إلى الأمجاد السماوية .

حنة النبية بنت فنوئيل :

كذلك نسمع عن كوكب آخر من كواكب الصلاة والعبادة الصرفة والتكريس الكلى لهذا الغرض المقدس هى حنة بنت فنوئيل من سبطأشير , فقد مكثت تلك القديسة نحو 84 سنة لاتفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاونهاراً (لو37:2) حتى استحقت أن تنظر الطفل الإلهى يسوع المسيح حينما أتى به أبواه إلى الهيكل ليصنعا عنه كما يجب فى الناموس , فهى " فى تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء فى أورشليم " (لو 38:2) .

مريم أخت لعازر :

هى مثل واضح وعظيم لحياة العبادة والهدوء , فنراها جالسة عند قدمى المخلص تستمع لكلامه العذب المل هب للقلوب والمعزى للنفوس والمغذى للأرواح (لو39:10).

لقد قال المرنم عنها وعن أمثالها " الصديقون يحمدون اسمك . المستقيمون يجلسون فى حضرتك " .(مز13:140) .

ولاتعوزنا الشهادة على أن هذه الحياة , حياة العبادة والتأمل والسكون مقبولة لدى الرب ومفضلةعنده جداً , فالرب نفسه عندما جاءت إليه مرثا معاتبة " يارب أما تبالى بأن أختى تركتنى أخدم وحدى فقل لها أن تعيننى " (لو 40:10) أجاب يسوع إجابة كلها تأييد لموقف مريم ودفاع ورضى عن تصرفها , قال لمرثا : " مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد , فاختارت مريم (التى تمثل فئة العباد والنساك ) النصيب الصالح الذى لن ينزع منها " (لو 10:42،41) .

والنصيب الصالح الذى اختارته مريم ولاينزع منها أبداً هو التأمل ، كل الأعمال والممارسات الأخرى ستنتهى بموت الإنسان أو بزوال العالم , لكن التأمل فى الله وحياة التسبيح والصلاة فهى تبقى معنا فى الأبدية ولاتنزع منا , بها نشارك الملائكة والقديسين فى التسبيح الدائم لله والتأمل فى شخصه وفى رؤياه .

لما رأى يسوع مريم تبكى عند قبر أخيها لعازر , شاطرها البكاء "بكى يسوع " (يو35:11) وذلك كما قال عريس النشيد : " حولى عنى عينيك فانهما قد غلبتانى " (نش 5:6) .

نفس هذا التأثير القوى على الرب الحنون يكون من عينى العابد المتطلع دائماً إلى الرب والرافع إليه عينيه كأعين العبيد إلى أيدى مواليهم وكعينى الأمة إلى يدى سيدتها . لايستطيع الرب إلا أن يحفظ هذه الدموع فى زق عنده كشئ ثمين لايجب ضياعه , ثم يقوم الرب ليعطى تلك النفس كل طلبتها ويتمم كل مشيئتها كمافعل مع مريم وأقام لها أخاها الحبيب لعازر بعد موته ودفنه بأربعة أيام كاملة .

وفى مساء ذلك اليوم "صنعوا له هناك عشاء وكانت مرثا تخدم (كعادتها وحسب الموهبة التى أعطيت لها )" (يو 2:12) أما مريم " أخذت ... منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن , سكبتها ودهنت بها قدمى يسوع ومسحت قدميه بشعرها " (يو3:12) .

وتقبل الرب يسوع هذه التقدمة بالامتنان كما تقبل قبل ذلك تقدمات مريم من صلوات وتأملات ولما بدأ البعض فى تعنيفها قال لهم يسوع :" لماذا تزعجون المرأة فأنها قد عملت بى عملا حسنا .... الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل فى كل العالم يخبر بما فعلته هذه تذكاراً لها " (مت 13،10:26) .

وهكذا علمنا أن أحسن وسيلة بها نحفظ مالنا ووقتنا وجهدنا هى سكبه عند قدمى المخلص فى صلوات وعبادات وتأملات حتى يملئ بيت أنفسنا من رائحة طيب الفضيلة ويشم فينا الناس رائحة المسيح الزكية .

يوحنا المعمدان :

أعظم مواليد النساء , والشجاع فى الحق هو أيضاً تحلى بالكثير من فضائل وممارسات الرهبنة .

فقد عاش بتولاً طاهراً كل أيام حياته .

عاش فى البرية وتربى فى أحضانها منذ نعومة أظافره فيخبرنا سنكسار يوم 30 بؤونه أنه " عندما قتل الأطفال بأمر هيرودس الملك الطاغية أراد الجند أن يأخذوا الطفل يوحنا ليقتلوه فحمله زكريا أبوه وقال لهم هلموا لأريكم المكان الذى أخذته منه فتأخذوته من هناك , فجاءوا معه إلى الهيكل فوضعه على جناحه حيث بشر به , فخطفه ملاك الرب إلى البرية " وهكذا عاش فى البرارى إلى ظهوره لإسرائيل وكان فى البرية ينمو ويتقوى بالروح (لو80:1).

كان ناسكاً متقشفاً , فقد كان لباسه من وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه . ومازال الرهبان حتى الآن يلبسون هذه المنطقة الجلدية لتشد وسطهم وتساعدهم على الأصوام وعمل المطانيات , أما طعام يوحنا المعمدان فكان نوعاً من الجراد وبعض مايجده فى شقوق الصخر من عسل النحل البرى .

كان يوحنا فى البرية تحت إرشاد المعلم الأعظم , ومن المعيشة الخشنة التى عاشها هناك تعلم القوة والشجاعة فى الحق ولو أخذت رأسه ثمناً لذلك . علمته البرية الهدوء والثبات على المبدأ ولو أمام الملوك حتى مدحه الرب يسوع قائلاً للجموع " ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا . أ قصبة تحركها الريح , لكن ماذا خرجتم لتنظروا ,أإنساناً لابساً ثياباً ناعمة , هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم فى بيوت الملوك . لكن ماذا خرجتم لتنظروا . أنبياً .نعم أقول لكم وأفضل من نبى" (مت11: 7-9) .

وللحياة المباركة الفريدة التى عاشها يوحنا المعمدان فى البرية , وللسيرة العالية التى كان يسيربها تحت إرشاد الله المعلم الأعظم , وللاتحاد والشركة المستمرة مع الله التى كان يتمتع بها طوال هذه الفترة , لكل هذه الفضائل العالية سماه يوحنا ذهبى الفم "رائد الرهبان وقائدهم ".

انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثلوا بإيمانهم (عب 7:13):

وقد حذا الرهبان القديسون منذ نشأة الرهبنة حذو مريم العابدة الهادئة المتأملة واختاروا نصيبه الصالح ، وتمثلوا بيوحنا المعمدان الناسك العابد ساكن البرارى ، فخرجوا سائحين إلى البرارى والقفار وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم فى الملك المسيح . فى البرارى حيث السكون والهدوء جلسوا فى حضرة الرب وتمتعوا به وعرفوه عن قرب وصاروا أصدقاء ومعارف وأحباء خصوصيين له . صارت لهم دالة ومحبة معه . آمنوا بحياة العبادة واقتنعوا بصحتها وسلامتها ، فكرسوا نفوسهم لها فى هذيذ دائم ودهش مطلق وفحص مستمر للنفس ومراقبة دائمة لحركتها وسكناتها حتى وصلوا إلى درجات عالية من النقاوة والطهارة وبالتالى إلى الاتحاد بالله .

تلذذوا بالرب وطابت لهم العشرة معه حتى نسوا أهلهم وذويهم كما يقول الشيخ الروحانى "محبة المسيح غربتنى عن البشر والبشريات " ، عبقوا البرارى ببخور صلواتهم وينابيع دموعهم وذبائح أصوامهم ونسكياتهم وانسحاقهم .

الفضائل الرهبانية من الكتاب المقدس

وبجانب هذه الشخصيات الكتابية العظيمة التى مارست حياة الرهبنة وتحلت بفضائلها دون أن يطلق عليهم اسمها ، بجانب كل هؤلاء ، يوجد فى الكتاب المقدس الكثير من الآيات التى تشجع وتحض على حياة البتولية – وما الرهبنة إلا بتولية عابدة – كما تحض على حياة الصلاة والصوم والزهد والنسك والطاعة والتجرد ، التى هى أركان الحياة الرهبانية .

فمثلا عن البتولية :

v  يعزى الرب بلسان اشعياء النبى – الخصيان الذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات ، أى البتوليين الذين لم يتزوجوا ، ولم ينجبوا أولاد لكى يكرسوا حياتهم ووقتهم ومالهم ومواهبهم لله يعزيهم الرب بقوله :"لايقل الخصى ها أنا شجرة يابسة لأنه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتى ويختارون مايسرنى ويتمسكون بعهدى إنى أعطيهم فى بيتى وفى أسوارى نصباً واسماً أفضل من البنين والبنات ، أعطيهم اسما أبدياً لاينقطع " (أش56 :3-5) .

v  كما يرفع الرب يسوع قدر البتولية ويعتبرها صالحة وموهبة تامة نازلة من فوق من عند أبى الأنوار فيقول " ليس الجميع يقبلون هذا الكلام (أى حياة البتولية ) بل الذين أعطى لهم "(مت 11:19).ثم أهاب الرب بكل من يجد فى نفسه استعدادا واشتياقا لحياة البتولية – وما الرهبنة إلا بتولية عابدة مصلية – أن يقبل هذه الحياة ويعتنقها فقال :"من استطاع أن يقبل فليقبل " (مت 12:19) . وطبعا له أجره وإكليله .

v  والقديس البتول بولس الرسول ، لسان العطر ومعلم المسكونة مدح البتولية بكا قوته وشجع عليها بكل جوارحه فقال : " حسن للرجل أن لايمس امرأة (أى لايعرفها معرفة الزواج ) . .... أقول لغير المتزوجين وللأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا (أى غير متزوجين ). .... غير المتزوج يهتم فى ماللرب كيف يرضى الرب وأما النتزوج يهتم فى ما للعالم كيف يرضى امرأته . إن بين الزوجة والعذراء فرقاً ، غير المتزوجة تهتم فى ماللرب (كيف ترضى الرب) لتكون مقدسة جسداً وروحاً . وأما المتزوجة فتهتم فى ما للعالم كيف ترضى رجلها . هذا أقوله لخيركم ليس لكى ألقى عليهم وهقا (ثقلا) بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب عن دون ارتباك ..." (1كو7).

v  ويخبرنا سفر الرؤيا عن قيمة البتولية ومركز البتوليين والأبكار فى السماء فيقول الرائى :"ثم نظرت وإذا خروف واقفا على جبل صهيون (وهو المسيح حمل الله الذى حمل خطية العالم كله)، ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفا لهم اسم أبيه مكتوبا على جباهم . وسمعت صوتا من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم . وسمعت صوتاً كصوت ضاربين باقيثارة يضربون بقيثارتهم . وهم يرنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ ولم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة إلا المائة والأربعة والأربعون ألفا الذين اشتروا من الأرض ، هؤلاء الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار . هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب . هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله وللخروف وفى أفواههم لم يوجد غش لأنهم بلا عيب قدام عرش الله " (رؤ1:14-5) .

وعن الصلاة :

v              أما عن الصلاة التى هى عمل الراهب وواجبه الأول ، فالكتاب المقدس يذخر بالآيات والنصائح التى تدعو إليها وتشجع على ممارستها ، فالرب يعرفنا على لسان اشعياء النبى أن الإنسان مخلوق لعمل الصلاة والتسبيح لله وتمجيده ، تماما كالملائكة المخلوقين لهذا الغرض عينه ، وبذلك يسعد كسعادتهم ويحيا حياة سمائية كحياتهم ، فيقول :"لمجدى خلقته (أى خلقت الإنسان ) وجبلته وصنعته " (أش7:43) ، كما يقول :" هذا الشعب جبلته لنفسى . يحدث بتسبيحى " (أش 21:43) .أى أن عمله الأساسى والأول هو تقديم التسبيح والتمجيد للخالق العظيم .

v              الرب يسوع نفسه كان مثلا يحتذى فى الصلاة ، فكثيرا ما كان يبيت فى الجبال ويقضى الليل كله فى الصلاة ، وكثيراما نصحنا وكرر النصيحة أن نصلى وأن نسهر فى الصلاة منتظرين مجئ الرب الذى سيأتى بغتة ، فيقول فى أحد المواضع : " انظروا. اسهروا وصلوا لأنكم لاتعلمون متى يكون الوقت " (مر33:13) . والكلمة " انظروا " فى أول الآية . جاءت كتنبيه أو لفت نظر أن الوصية التى بعدها فى منتهى الأهمية والخطورة .

v              ورسائل الرسول بولس وبقية الرسل واقوالهم مشحونة بالنصائح المشجعة على وجوب الصلاة بلا انقطاع ووجوب التعقل والصحوللصلوات ، والسهر فيها بالشكر . ويعوزنا الوقت أن أوردناها واحدة فواحدة ونكتفى الآية القائلة :" وصنع من دم واحد كل أمة من الناس ... لكى يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه " (أع 27،26:17).

التجرد :

v    أما عن التجرد أ الفقر الاختيارى الذى هو أحد أسس الرهبنة ، فالكتاب المقدس أيضاً ملئ بالأمثلة والنصائح التى تدعو إليه ، فالمسيح نفسه عاش فقيراً ليس له أين يسند رأسه ، ولما طلبوا منه الجزية لم يكن لديه ما يدفعه فأمر بطرس أن يصطاد سمكة فيجد فيها أستاراً فيدفع الجزية عن كليهما (مت 27:17) ، وكما زهد الرب يسوع فى الأموال والمتنيات زهد أيضاً فى المناصب والشهرة فلما " علم أنهم مزعمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً انصرف إلى الجبل وحده" (يو15:6) . وكان بعد كل معجزة يعملها يختفى بعض الوقت هرباً من المجد الباطل .

v    وكما عاش هو حياة التجرد دعا المؤمنين به إلى هذه الحياة البسيطة فقال " لايقدر أحد أن يخدم سيدين .... لاتقدرون أن تخدموا الله والمال " (مت 24:6) .

v    وهكذا علمنا تلميذه الحبيب يوحنا قائلا : "لاتحبوا العالم ولا الأشياء التى فى العالم . إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب . لأن كل ما فى العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة " (1يو16،15:2) .

v    وكما عاش ارب يسوع فقيراً عاش أيضاً تلاميذه فقراء فها هو الرسول بولس يقول :" كفقراء ونحن نغنى كثيرين " (2كو 10:6) . كما ينصح تلميذه السقف تيموثاوس قائلاً : " أكرم الأرامل اللواتى هن بالحقيقة أرامل ... التىهى بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على الله وهى تواظب الطلبات والصلوات ليلاً ونهاراً . وأما المتنعمة فقد ماتت وهى حية " (1تى 3:5-6) .

الطاعة :

v    وبخصوص حياة الطاعة التى هى من أهم أركان الرهبنة والدرس الأول الذى يجب أن يتعلمه كل طالب رهبنة وإلا اختلت حياته كراهب وأثبت فشله وعدم صلاحيته لمثل هذا النوع من الحياة . فقد مدح الكتاب ه كثيراً حياة الطاعة , والرب يسوع نفسه تحلى بها وصار لنا فيها مثالاً وقدوة . فيقول :" طعامى أن أعمل مشيئة الذى أرسلنى وأتمم عمله " (يو34:4) .

وكما أن الطعام طاعة الآب بالنسبة للمسيح وهى كل شئ فى حياته , كما يقول أيضاً:"لأنى قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتى بل مشيئة الذى أرسلنى "

(يو 38:6) , كما قال : " لست أفعل شيئاً من نفسى بل أتكلم بهذا كما علمنى أبى والذى أرسلنى هو معى ولم يتركنى الآب وحدى لأنى فى كل حين أفعل ما يرضيه"(يو 29،28:8).

v  وقد دعانا الرب للدخول من باب الظاعة الضيق لأنه مضمون ومأمون فيقول : " اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق " (لو 24:13), " ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدى إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه " (مت 14:7) .

v  ويوضع لنا الرسول بولس طريق الطاعة فيقول :" أطيعوا مرشديكم واخضعوا ( لهم ) لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم " (عب 17:13) . ويقول أيضا إن المسيح جاء وتجسد وتألم مطيعاً لمشيئة الآب لكى " يعتق أولئك الذين خوفاً من الموت ( الهلاك الأبدى ) كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (أى العبودية بالطاعة والخضوع لوصايا المسيح ولأب الأعتراف والمرشد الروحى )" (عب 15:2).

الموت عن العالم :

v  وعن الموت عن العالم الذى هو شعار الراهب ومنهجه يقول الرسول بولس : "صادقة هى الكلمة أنه إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضا معه . إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه " (2تى 12،11:2). ويقول أيضاً :" إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا مافوق حيث المسيح جالس عن يمين الله , اهتموا بما فوق لابما على الأرض لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله (كو1:3-3) .

فضائل رهبانية متنوعة :

v  يقول المرنم :"أما أنا فخير لى الالتصاق بالرب " (مز28:73). أية حياة توصل إلى هذا الهدف السامى الذى هو الالتصاق بالرب والهذيذ فيه بلا انقطاع أكثر من حياة الرهبنة والوجود فى البرية بعيدا عن العالم واهتمامه التنوعة التى تغرق الناس فى العطب والهلاك ؟!

v  الله يفرح بالنفس التى تخرج وراءه فى البرية طالبة الحياة معه والالتصاق به طوالالوقت والعيشة فى كنفه كعروس حقيقية أمينة لعريسها السماوى الذى أحبته من كل القلب , يقول الرب لتلك النفس :"قد تذكرت لك غيرة صباك ومحبة خطبتك وذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة " (أر2:2).

v  ويعلن دخوله معها فى عهد زيجة روحية مقدسة فيقول :" وأخطبك لنفسى إلى الأبد ، وأخطبك لنفسى بالعدل والحق والإحسان والمراحم , أخطبك لنفسى بالأمانة فتعرفين الرب " (هو 20،19:2) .

v    فى البرية تقضى نفس الراهب كل حياتها فى عيشة سعيدة هانئة مع عريسها السماوى فيقول الرب فى ذلك : " ها أنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها " (هو14:2) .

v    يقول الجامعة : " .... الهدوء يسكن خطايا كثيرة " (جا4:10). فى أى مكان يستطيع الإنسان أن يضبط الهدوء ويجد فرصة للخلوة ليصل إلى الهدوء النفسى وفحص الذات للتعرف عليها والوقوف على نقط الضعف والقوة فيها حتى ينتصر فى جهاده ضد الخطية والشيطان ؟ أين يجد كل ذلك أكثر مما فى البرية وداخل أسوار الدير ؟!

v    يقول إشعياء النبى : " لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل : بالرجوع والسكون تخلصون , بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم " (إش 15:30) .

أين تتوفر فرص الرجوع للنفس ومحاسبتها وبالتالى الرجوع إلى الله وتقديم التوبة إليه . أين يتوفر السكون والهدوء والطمأنينة التى تساعد على خلاص النفس ونوال القوة الروحية أكثر مما فى البرية حيث العزلة والتأمل فى الله وطلب محبته وتنفيذ وصاياه . ثم فحص النفس وتنقيتها . لذلك سميت برية الإسقيط أيضاً " برية شيهيت " وهى كلمة قبطية تعنى "برية ميزان القلوب " وذلك لأنها تساعد الراهب على أن يقتنى حساسية روحية ومعرفة صحيحة للوصية بها يزن حياته الروحية ويتعرف على كل أسرار نفسه وخباياها , فيعمل بالتالى على تقويم اعواجاحها وإصلاح عيوبها حتى يحصل على ثقل روحى ويمتلئ بأثمار الفضيلة فيحصل على الأبدية السعيدة مع الأبرار والتائبين ولايكون نصيبه الأبدى فى الموازين إلى فوق (مز9:62)ويتفادى مصير بليشاسر الشرير الذى قيل عنه " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً " (دا27:5).

v  يقول إشعياء النبى أيضاً :"ياذاكرى الرب لاتسكتوا ولاتدعوه يسكت حتى يثبت ويجعل أورشليم تسبيحة فى الأرض " (إش 7،6:62) .

أليس هذا أمر إلهى بالصلاة الدائمة وذكر الرب بلا انقطاع حتى يبتلع القلب (أورشليم النفس ) فى التسبيح ، ويصبح هو نفسه تسبحة , ويكمل عليه المرنم :" أما أنا فصلاة " .

أين يتوفر الوقت للقيام بممارسة تداريب الصلاة الدائمة وذكر الرب بلا انقطاع كأمر الرب " ينبغى أن يصلى كل حين ولايمل " (لو 1:18) , وقول الرسول :" صلوا بلا انقطاع " (1تس 17:5) , وقوله : " نشكر الله بلا انقطاع " (1تس 13:2) .

أين يتوفر كل هذا أكثر مما فى البرية , وبين الرهبان المتخصصين والمكرسين لهذا العمل الإلهى العظيم ؟!

v         يقول عريس النشيد مخاطباً عروسه المحبوبة :" من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر " (نش 6:3) .

كان الرب يسوع هنا يخاطب نفس الراهىب المجاهد فى البرية , جبل المر (أى جبل النسك والصوم والجهادات الشاقة ) وتل اللبان (أى برية الصلاة المقبولة التى تفوح رائحتها كرائحة البخور واللبان ) (نش 6:4) .

نفس الراهب الذى يقضى حياته فى جهادات الرهبنة الشاقة فى البرية تصبح معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر , أى يشم الرب منها رائحة الرضا ويتقبل جهاداتها وأصوامها التى تؤدى إلى مرارة الحلق وتعب الجسم مثل عطور وأطياب المر والسليخة , ويتقبل صلواتها كرائحة بخور وكذبائح ومحرقات دائمة تقدم له دائماً على مذبح المحبة عشية وباكر ووقت الظهر .

v         يقول أيوب الصديق :" عهداً قطعت لعينى فكيف أتطلع فى عذراء " (أى 1:31) .

v         ويقول الحكيم يشوع بن سيراخ : " لاتتفرس فى العذراء لئلا تعثرك محاسنها " (سى 5:9).

ويقول أيضاً "اصرف طرفك عن المرأة الجميلة ولاتتفرس فى حسن الغريبة فإن حسن المرأة أغوى كثيرين وبه يلتهب العشق كالنار " (سى 9،8:9) .

الراهب لايتطلع إلا إلى العذراء الدائمة البتولية القديسة الطاهرة مريم , فيتعلم من هذه النظرة كيف تكون القداسة وكيف يقتنى الطهارة والعفاف .

v    يقول أرميا النبى :" جيد للرجل أن يحمل النير فى صباه . يجلس وحده ويسكت " (مرا27:3).

فى أى مكان يمكن تنفيذ وصية النبى " يجلس وحده ويسكت " أكثر مما فى البرية بعيداً عن الخلطة والمجتمعات الصاخبة ؟! فى البرية يجد الإنسان الجو مهيأ والعوامل كلها تساعده على حياة الهدوء والسكون.

v         كما تحتاج الكنيسة للخدام والرعاة لرعاية أبنائها وحمايتهم من الذئاب الشيطانية ولتعليمهم وصايا الرب وإنذاراته ولتقديم قدوة صالحة لهم بالقول والعمل ,تحتاج أيضاً العباد الذين يداومون احناء الركب ويساعدون بصلواتهم الحارة أولئك الخدام المشغولين بأمور الخدمة ويساعدون بتضرعاهم المؤمنين المشغولين بأمور حياتهم المعيشية والعائلية , فيكونون للكنيسة كجيش خلفى أو ساتر غير منظور لحمايتها وإنعاشها , فنقرأ عن أبفراس أحد تلاميذ بولس الرسول مايلى :"يسلم عليكم ابفراس الذى هو منكم عبد للمسيح مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات , لكى تثبتوا كاملين وممتلئين فى كل مشيئة الله " (كو12:4).

ويقول قداسة البابا شنودة الثالث فى ذلك : " تكفى صلاة راهب واحد , إنها تحمى آلفاً بل وعشرات الآلاف من الناس إذا كانت صادرة قلب نقى ملتصق بالله حقاً " .

الرهبنة الحالية تأسست فعلاً على بعض آيات الكتاب المقدس :

v  وقد نشأت الرهبنة القبطية خاصة وبالتالى الرهبنة المسيحية عامة على بعض الآيات الكتابية التى سمعها أوتأمل فيها القديس العظيم الأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة وأب جميع الرهبان . فتخبرنا سيرته العطرة التى سجلها البابا القديس النبا أثناسيوس الرسولى " أنه بينما كان ذاهباً ذات يوم كعادته إلى الكنيسة كان يناجى نفسه ويتأمل وهوسائر كيف أن الرسل تركوا كل شئ وتبعوا المخلص , وكيف ذكر عنهم فى أعمال الرسل أنه باعوا ممتلكاتهم وأتوا بأثمانها ووضعوها عند أرجل الرسل لتوزيعها على المحتاجين وكيف وضع لهم رجاء عظيم فى السماء .

v  وإذكان يتأمل فى هذه الأمور دخل الكنيسة فسمع الرب فى فصل الإنجيل يقول للغنى : " إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع املاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنزفى السماء "(مت21:19) .

فكان الله قد ذكره بالقديسين وكأن تلك الفقرة قرأت له خصيصاً , فلما خرج من الكنيسة أعطى القرويين ممتلكات آبائه وكانت ثلاثمائة فدان من أجود الأراضى لكى لاتكون عثرة فى سبيله هو واخته ، وباقى المنقولات باعها وإذ توفرت لديه أموال كثيرة أعطاها للفقراء محتفظاً بالقليل لأخته .

v         دخل الكنيسة ثانية فسمع الرب يقول فى الأنجيل :"لا تهتموا للغد " (مت 34:6) فلم يستطيع البقاء أكثر من ذلك بل خرج وأعطى تلك الأشياء أيضاً للفقراء ثم أودع اخته فى أحد بيوت العذارى , ثم خرج من قريته وتفرغ للنسك والصلاة " .

v         خرج القديس أنطونيوس لينفذ وصية الإنجيل ,وعاش حياة نسكية إنجيلية , وكان يقرأ فى الكتاب المقدس ويجاهد لكى يحول ماقرأه إلى حياة كما كان ينصح أولاده قائلاً " كل عمل تعمله يجب أن يكون لك عليه شاهد من الكتاب المقدس " .

v         وجاء آباء البرية فى كل جيل يعيشون حياة نسكية إنجيلية موضحين بحياتهم وسلوكهم مفهوم الإنجيل وروحه .