الرهبنة حياة توبة
الرهبنة حياة توبة
أهمية حياة الرهبنة :
كانت التوبة هى صلب كرازة يوحنا المعمدان , فحينما أتى إلى برية اليهودية كان يكرز لجميع الذين خرجوا إليه من أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن قائلاً:" توبوا لأنه قد أقترب ملكوت السموات "(مت2:3) . وقد قبل الناس كرازته واعتمدوا منه فى الأردن معترفين بخطايهم (مت 6:3) .وسميت معموديته " معمودية التوبة" (مت 11:3) .
وكانت التوبة أيضا هى كرازة ربنا يسوع المسيح , فنراه عند بدء خدمته قد جاء إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله . ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله . " فتوبوا وآمنوا بالأنجيل " (مر15,14:1) . وقد أرانا مقدار فرح قلب الله وقلوب ملائكته الأطهار بتوبة الخاطئ – بينما لايحس أحد بهذه التوبة من الذين على الأرض – فيقول "يكون فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لايحتاجون إلى توبة " (لو7:15).
وفى عظته الإلهية على الجبل أشار إلى التوبة ووصفها بالباب الضيق والطريق الكرب . ونصح الجميع بالدخول منه والسير فيه فقال :"ادخلوا من الباب الضيق , لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه .ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدى غلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه " (مت 14,13:7).
ولعلمه له المجد أنه بدون التوبة لن يخلص أحد .فلاصوم ولاصلاة ولا رحمة ولاخدمة ولاأية فضيلة أخرى تستطيع ان تنفع إنسانا غير تائب . لعلمه بكل هذا قال إنذاره المشهور :" إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون " (لو3:13). ولوعلمتم كل الحسنات الأخرى بدون التوبة .
وقد كرر إنذاره الرهيب هذا بأكثر تشديد فى (لو5:13) .
وحتى بعد قيامته من بين الأموات أوصى تلاميذه وذكرهم بهذا الغرض السامى ,غرض الكرازة بالتوبة لجميع الناس , فأوصاهم بأنه ينبغى " أن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدئاً من أورشليم " (لو47:24) .
وفوق كل هذا فقد اتخذ لنفسه عند تجسده هذا الاسم " يسوع " أى مخلص " لأنه يخلص شعبه من خطاياهم " (مت 21:1) .
وكانت التوبة هى صلب كرازة الرسل , فحينما دعا الرب الاثنى عشر وابتدأ يرسلهم اثنين للكرازة (مر7:6) خرجوا وصاروا يكرزون للناس أن يتوبوا ( مر12:6) ....
زظلت الكرازة بالتوبة تأخذ اهتمام الرسل سواء فى كرازتهم أورسالتهم , فبولس الرسول بعد أن ظهر له الرب بالقرب من دمشق ودعاه للإيمان به واختاره للخدمة فى كرمه أخذ يدعو الناس للتوبة , فيقول فى خطابه وهو واقف مقيد بالسلاسل أمام أغريباس :" من ثم أيها الملك أغربياس لم أكن معاندا للرؤيا السماوية بل أخبرت أولا الذين فى دمشق وفى أورشليم حتى جميع كورة اليهودية ثم الأمم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله عاملين أعمالا تليق بالتوبة "(أع 20,19:26) .. وحينما وقف فى وسط أريوس باغوس نادى بأعلى صوته قائلا :" الله الآن يأمر جميع الناس فى مكان أن يتوبوا متغاضيا عن أزمنة الجهل " (أع 30:17) .
وفى رسائله ايضا لايغفل أن يبحث الناس على التوبة كأهم عمل يقربهم إلى الله ويجلب لهم رضاه , فيقول فى رسالته لأهل رومية :"ام تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة " (رو4:2) .وفى رسالته إلى العبرانين يسمى التوبة مع الإيمان " أساس وبداءة تعاليم المسيح " (عب 1:6) . وينصح بطرس الرسول فى إحدى عظاته قائلاً :" توبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكى تأتى أوقات الفرج من وجه الرب "
(أع 19:3) ويقول أيضاً فى إحدى رسائله :" لايتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وهو لايشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة "
(2بط 9:3) وإذ تحقق القديسون من كرامة التوبة وتأثيرها المفرح على قلب الله وقلوب ملائكته الأطهار , اغتصبوها لأنفسهم , وأخضعوا ذواتهم لأفعال التوبة هى عمل القديسين والندامة هى فعل الأبرار .
مثال رائع للتوبة :
مرض مرة الراهب القديس العظيم النبا صيصوى مرض الموت , وكان الآباء جلوساً حوله فسمعوه يخاطب قوماً . فقالوا له ماذا تعاين أيها الأب ؟ فقال ها أنذا أعاين قوماً قد جاءوا لأخذ نفسى وأنا أتضرع إليهم أن يمهلونى قليلاً حتى أتوب , فقال له أحد الشيوخ :وإن هم أمهلوك هل تقدر الآن أن تنجح فى التوبة وأنت فى هذا السن؟ فقال : وإن كنت لا أقدر أن أعمل عملا فإنى أتنهد وأبكى .فقال أحد الشيوخ : إن توبتك قد كملت أيها الأب . فقال لهم صدقونى إنى لست أعرف من ذاتى إن كنت قد بدأت إلى الآن (بالتوبة أم لا) . ولما قال هذا أشرق وجهه كالشمس ففزع الذين كانوا حوله , فقال : انظروا إن الرب قال :ايتونى بتائب البرية , ولوقته أسلم الروح , وامتلأ المنزل (القلاية) من رائحة زكية .
وكثيرون من القديسين غيره قضوا حياتهم كلها فى أعمال التوبة وجهاداتها الشاقة حتى دعوا ب " التوابين " ويقول القديس مكاريوس الكبير : " طوبى لمن لازم التوبة حتى يمضى إلى الرب " وماراسحق يقول :"التوبة هى رعدة النفس حتى باب الفردوس ".
أهم مقومات التوبة :
ومن أهم مقومات التوبة ووسائل نجاحها واستمرارها :
الابتعاد عن أماكن العثرات والهروب من أماكن السقوط وإثارة الشهوات :
فيقول الحكيم يشوع بن سيراخ :" اهرب من الخطية كمن وجه الحية لأنك إن تقدمت تقتلك " ( سى 2:21) .
وعن الخطايا الشبابية ينصحنا الرسول قائلا :" أما الشهوات الشبابية فاهرب منها واتبع البروالإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقى " (2تى 22:2) .
وبين سليمان الحكيم سبب الهروب فى تساؤل لطيف فيقول : " أيأخذ إنسان نارا فى حضنه ولا تحترق ثيابه . أويمشى إنسان على الجمر ولاتكتوى رجلاه "( أم 28,27:6) .
وقد وجد الآباء الرهبان فى البرارى والأديرة أحسن وأضمن مكان لأعمال توبتهم وضمان استمرارهم وعدم رجوعهم للخطيئة مرة أخرى , وقد دعوا البرية وما فيها من أديرة " بلد الثقة " .
فى البرية يكون افنسان بعيدا عن اماكن الخطيئة ومثيرات الشهوات فلايرى ولا يسمع وبالتالى لايشتهى لأنه من المعروف أن " البعيد عن العين بعيد عن القلب ".
فى الجبل وبمرور الزمن ينسى الراهب تلك العثرات والمناظر القديمة التى كان يراها ويسمعها فى العالم حيث " كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالأفعال الأثيمة " (2بط 8:2) .
وهكذا إذ ينسى القديم الردئ ولايأتى إلى القلب إلى الحواس شئ جديد من هذا النوع ,وإذا يكون للراهب جهاد مقدس وغيرة ملتهبة لحباة التوبة وإرضاء الله ,يصل سرعة إلى حياة النقاوة وحلآوة العشرة مع الله لأن الرب يسوع المسيح يقول :" طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله " ( مت 8:5) .
من أجم التسميات والتعاريف التى تقال عن الرهبنة هذا التعريف " الرهبنة هى حياة التوبة "وذلك لأن فى البرية يجد الراهب فرصة كل يوم فى السكون والهدوء ليجلس مع نفسه ويفتش ذاته ويقدم توبة عن خطاياه وفى ذلك يقول ماراسحق :"غن كنت تحب التوبة فاحب السكون لأنه بدونه لن تكتمل التوبة " ويقول أيضا :" التوبة لتكمل فى السجس " وينصح قائلا : " إذا أفرزت نفسك للتوبة فكل يوم لاتجلس فيه ساعة بينك وبين نفسك تتفكر بأى الأشياء أخطأت وبأى أمر سقطت لتقوم ذاتك فيه فلا تحسبه من عداد أيام حيلتك ".
من النادر الآن فى عالم السرعة المخفية والمشغوليات الخانقة أن يجد الإنسان فرصا سانحة لفحص النفس والتوبة ومراقبة ذاته عن كثب مثلما يجد ساكن البرية البعيد والمتغرب عن كل هذه الأجواء .
من مقومات التوبة ايضا البعد عن حياة التنعم والملذات والمعيشة الرخوة الشهوانية والرسول يقول :" وأما المتنعمة فقد ماتت وهى حية " (1تى 6:5) . وينذر الله المتنعمين الذين لذت لهم الأرض ولم يفكروا فى السماويات ولافى الأستعداد لحياة الأخرى بقوله :"فالآن اسمعى هذا أيتها المتنعمة الجالسة بالطمأنينة القائلة فى قلبها انا وليس غيرى ... يأتى عليك شر لاتعرفين فجره وتقع عليك مصيبة لاتقدرين أن تصديها وتأتى عليك بغتة تهلكة لاتعرفين بها " (أش 47:8-11) .
فى البرية يعيش الراهب عيشة التقشف والزهد والتجرد , يكتفى بالضروريات ولايلتفت للتنعمات والراحات , وبالجملة يتغرب عن شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة . هذه الحياة النسكية كفيلة بأن تحرك فى النفس مشاعر التوبة وطلب اللالتجاء إلى الله والتمسك به حيث يفوز الإنسان بالنعيم الأبدى ليكون مع المسيح الذى من أجله خسر كل الأشياء وهو يحسبها نفاية .
الراهب الجالس فى الهدوء يقتنى حساسية مرهفة ضد الأخطاء والخطايا قد لايقتنيها العلمانى المشغول دائما فى دوامة مشاغل الحياة .
يقتنى الراهب حياة التدقيق والشدة مع نفسه فى حياة التوبة وأسلوبها , لايستاهل مع نفسه أو يدللها أو ينتحل لها الأعذار .
الخطيئة دائما كبيرة فى عينى الراهب , مهما كانت صغيرة وتافهة , وذلك بسبب حالة النقاء التى يصل إليها , وذلك مثل ثوب ناصح البياض سقطت عليه نقطة حبر صغيرة تكون ظاهرة وملحوظة جدا وتعكر صفاءه , بخلاف إذا سقطت تلك النقطة على ثوب غير أبيض وغير نظيف فإنها قد لاتظهر بتاتا أو تظهر بسيطة وليست بذات أهمية .
الإنسان العادى يهتم فى توبته واعترافه بالسلبيات التى فى حياته فقط , أما الراهب فيتوب ويعترف أيضا بالتقصيرات التى يصاب بها فى النواحى الإيجابية وعمل الفضائل , فهو يعتبرها خطية إذا قصر فى تادية إحدى صلوات السواعى أولم يعمل جزء من قانون مطانياته , أو سنحت له الفرصة لإظهار طاعة أو احتمال أو عمل رحمة ولم يستغل هذه الفرصة لعمل الفضيلة المناسبة .... وهكذا .
البرية هى أنسب مكان للتوبة :
لكن هل حقا أن البرية هى أنسب واضمن مكان لحياة التوبة واستمرارها ؟ نقول وفى غير تردد " نعم " ونستدل على ذلك من سير رجال الله القديسين :
فهذا بولس الرسول العظيم :
بعد أن ظهر له الرب بالقرب من دمشق , وبعد أن آمن واعتمد على يد حنانيا , يقول هو نفسه : " ولكن لما سر الله الذى أفرزنى من بطن أمى ودعانى بنعمته أن يعلن ابنه فى لأبشر به بين الأمم للوقت لم أستشر لحما ولا دما ولاصعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلى بل انطلقت إلى العربية ..." (غل 1: 25-17) .
والصحراء العربية التى انطلق إليها الرسول هى الصحراء العربية الكبرى الواقعة بين سوريا والعراق , وانطلق إلى هناك ليقضى فيها فترة من الزمن يقدم توبة صادقة عما صنعت يداه ,لأنه كان قبل دخول الإيمان متعصبا للديانة اليهودية تعصبا شديدا , فكان راضيا بقتل اسطفانوس أول الشهداء وكان يحرس ثياب الذين رجموه (أع 58:7) .
و " هو الذى أهلك فى أورشليم الذين يدعون بهذا الاسم ( اسم يسوع ) وقد جاء إلى هنا ( إلى دمشق ) ليسوقهم موثقين إلى رؤساء الكهنة " ( أع 21:9)ويجمل هو نفسه كل أعمال العنف التى قام بها ضد كنيسة الله بقوله "إنى كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط ...." (غل 13:1) .
ذهب إلى الصحراء العربية ليصنع توبة عن تعدياته السالفة لأنه أيقن أن الصحراء هى أنسب مكان يستطيع فيه أن يجلس مع نفسه يكتشفها ويحاسبها , ويجلس مع الله يسترحمه ويستغفره , وأيضا لكى يمتلىء شحنة روحية قوية ويستعد للانطلاقة الجبارة التى كان مزمعا أن يقوم بها للتبشير باسم الرب يسوع المسيح بين الأمم .
والقديس موسى الأسود :
بعد أن شرب الإثم كالماء اشتاق لمعرفة الله ولحياة التوبة فدبرت له العناية الإلهية الذهاب إلى برية شيهيت حيث تتلمذ للقديس ايسيذوروس قس الأسقيط , وهناك فى البرية المقدسة " ميزان القلوب " صنع توبة مثالية , كان عنيفا فى توبته , فى جهاده , فى نسكه , حتى أصبح من آباء البرية المشهورين والمعتبرين أعمدة , وأصبح معلما فذا للتوبة والجهاد الرهبانى الصحيح .
والقديسة مريم المصرية :
بعد أن غرقت فى حمأة الخطيئة والفجور سبع عشرة سنة أسقطت فيها شبانا كثيرين , ثم سافرت إلى أورشليم لنفس الغرض لتزيد عدد ضحاياها , وهناك حاولت الدخول إلى الكنيسة مثل سائر الداخلين فشعرت أن يدا غير منظورة تمنعها , كررت المحاولة دون جدوى , تخشعت نفسها فأخذت تتأمل قبح سيرتها , فبكت أمام أيقونة العذراء وقطعت عهدا أمام الله بنذر بقية حياتها لعبادته فى البرية إن سمح لها بالدخول والتبرك من خشبة الصليب المقدسة . وفعلا تم لها ما أرادت فدخلت الكنيسة وتباركت من خشبة الصليب الحى , ثم ذهبت واعترفت بخطاياها أمام أحد الكهنة وتناولت من الأسرار المقدسة , ثم انطلقت إلى برية الأردن ولها من العمر تسع وعشرين سنة , وبقيت فى تلك البرية سبعا وأربعين سنة فى عبادات شاقة ونسك زائد وقتالات صعبة , حتى استحقت أن تصل إلى درجة السواح وأعطاها الله روح النبوة ومعرفى الغيب .
وكثيرون غير هؤلاء وجدوا فى البرية مكانا مناسبا لغسل أدران نفوسهم وتبيض صفحات حياتهم بعد أن اتسخت بالخطيئة والإثم .
لكن ماهى الأسباب ؟
التى جعلت البرية أنسب مكان لحياة التوبة حتى انجذب إليها الكثيرون من طالبى التوبة مع الله , وانخرطوا فى سلك الرهبنة , وأصبحوا قديسين عظماء وفارزوا بإكليل التوبة وورثوا ملكوت السموات :
1- يأتى طالب الرهبنة إلى البرية ويدخل الدير ملتمسا قبوله فى سلك الرهبنة "ليقدم الله توبة " فإذا قبلوه ودخل الدير يبدأ حياته من الصفر , كيف؟ مهما كان مركزه فى العالم ومهما كانت ثقافته يترك هذا كله جانبا ويبدأ صغيرا . يلبسونه ثوبا بسيطا من أرخص الأنواع , يقدمون له قلاية متواضعة فيها أبسط الأثاث ينام فيها على الأرض . إذا اجتمع مجمع الرهبان للصلاة أو العمل كان هو أول من يحضر ويقف فى أول الصفوف . الكل يمكنه أن يتكلم أو يبدى رأيه , أما هو فكأصم لايسمع وكأبكم لايفتح فاه " ويكون مثل إنسان لايسمع وليس فى فمه حجة " (مز14,13:38). عليه فقط بالطاعة الكاملة حتى لأصغر راهب قبله فى الدير , عليه أن يؤدى ما يوكل إليه من أعمال دون تردد أوإبطاء , وعادة يوكل إليه فى الدير أدنى الأعمال وأصغرها .وبهذا يوفرون للأخ المبتدئ أنسب جو ملائم لحياة التوبة والتواضع والانسحاق .
2- يسلمه رئيس الدير لأحد شيوخ الدير المختبرين ليكن له أب اعتراف ومرشدا روحيا فى حياته الرهبانية ويكلفه بطاعة أبيه الروحى محيته واستماع مشورته إلى حد الموت فيبدأ الأخ أن يجلس مع أبيه الروحى جلسات روحية متوالية متقاربة يكشف له فيها حياته كلها بصراحة وأمانة مثل إنسان مريض يصف للطبيب كل أمراضه ومتاعبه حتى يستطيع الطبيب تشخصيها ووصف الدواء اللازم لعلاجها . يبدأ الأب المرشد أن يعطى للأخ الجديد النصائح والإرشادات التى تلزمه فى حياته الجديدة , ويضع له القواعد والأسس اللازمة التى يسير عليها فى حياته الرهبانية , من صوم إلى صلاة إلى مطانيات إلى اعتراف وتناول إلى طاعة واحتمال ومعاملة الآخرين وغيرذلك .
وعليه هو أن ينفذ كل نصائح وإرشادات أبيه الروحى فى محبة واشتياق وحرارة عالية .
3- يوضع الأخ العلمانى تحت اختبارات معينة من أب اعترافه ومن آباء الدير وشيوخه لاختبار مدى طاعته وتواضعه وقطعه لهواه وهى من أهم الفضائل التى تتميز بها حياة التوبة .
4- لايتوفر له فى الدير الجو الذى يعلم فيه آخرين ويوجههم , فالكل أكبر منه , هو المحتاج أن يتعلم وأن يسمع , يتلقى الأوامر ويطبعها , وهذا أيضا جو مناسب جدا لحياة التوبة .
يقول القديس يوحنا ذهبى الفم :"الذين هم فى زمان التوبة لايجوز لهم أن يجلسوا على الكراسى المعلين " .
5- كانت فترة الاختبار هذه فى الأصل تستمر ثلاث سنوات , أما الآن فتتناقص المدة بحسب صلاحية طالب الرهبنة وإظهار طاعته واستعدادته , ثم رضا رئيس الدير والرهبان عنه .
6- إذا صنع الأخ أثمارا تليق بالتوبة , ووجدوه صالحا لهذا النوع من الحياة " حياة التوبة و الرهبنة " رهبنوه ليصير عضوا صالحا فى مجمعهم الرهبانى المقدس .
تأملات فى طقس رسامة الراهب :
لدى تأملنا فى طقس رسامة الراهب نجده كله تقريبا ينصب على :
( أ ) الموت عن العالم .
( ب ) حياة التوبة .
( ج ) عمل أثمار تليق بالتوبة .
( د ) حمل الصليب واتباع الرب .
فأول عمل يعمله أب الدير فى طقس الرسامة أنه يغير اسم الأخ ويطلق عليه اسم أحد القديسين والحكمة فى تغيير الاسم هى أن ينسى الأخ حياته الماضية بما فيها من سقطات وعثرات ويصبح إنسانا جديدا , ليس بالشكل والمسكن فقط بل وبالاسم أيضا منفذا بذلك وصية الرسول القائلة :" أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور , وتتجدوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق " ( أف 4: 22-24) .
وثمة حكمة أخرى لتغيير الاسم هى لكى يتخذ الأخ من القديس الصاحب الأول للاسم شفيعا له , يدرس سيرة حياته ويتأمل فى فضائله وأقواله ويحاول قدر إمكانه أن يتمثل بجهاداته وفضائله .
يكون إعطاء الاسم والشكل فى عيشة يوم الرهبنة حيث يرشم له أب الدير الملابس الرهبانية الجديدة بالاسم الجديد, ثم يسير الأخ طول هذه الليلة متأملا فى الحياة الجديدة التى هومزمع أن يدخل فيها .
فى الصباح بعد رفع البخور باكر يرقد الأخ على الأرض أمام المقصورة التى تحوى أجساد القديسين الذين تكملوا فى الإيمان وتنيحوا , ملقى على ظهره على شكل الميت تماما ثم يغطونه بستر كما يغطون الميت , ثم تبدأ مراسيم طقس الرسامة التى تكون كل ألحانها ومرداتها وقراءاتها بنغمة الحزن وهى تشبه كثيرا طقس الصلاة على الموتى . وبذلك يعطون للأخ درسا وعظة انه قد مات عن العالم وشهواته وآماله الكاذبة التى " تغرق الناس فى العطب والهلاك " (1تى 9:6) .
أما سبب إجراء طقس الرسامة والأخ ملقى أمام أجساد القديسين فلكى تحل روحهم عليه وكأنه كما قال إليشع النبى لمعلمه إيليا عند صعوده إلى السماء فى المركبة النارية : ليكن نصيب اثنين من روحك على (2مل 9:2) .
ألا ترى معى أن هذا الطقس الحزين كاف أن يجعل الأخ يحزن عل خطيته السالفة ويتوب عنها , فالراهب هو الأنسان الوحيد الذى تجرى عليه مراسيم صلاة الأموات وبعد حى .
قطعا سيتبادر إلى ذهنه وهو ملقى على الأرض ومغطى كالميت بين الرهبان وهم يصلون عليه أوشية الراقدين والذكصولوجيات الخاصة بالمتنيحين بلحنها الحزين , ستتبادر إلى ذهنه ساعة الموت , وكيف سيكون ساعتها ملقى هكذا كما هو الآن بين المشيعين والمعزين .
إن مجرد تذكرة الموت والتأمل فيه بركة عظيمة كافية أن تجعل الإنسان لايتوب فقط بل ويبكى بكاءا مرا على ما فرط منه معاهدا الرب أن يبدأ حياة جديدة .
وإذا تأملنافى بعض قراءات طقس الرسامة نجد أن :
1- النبوات تنص على هجر العالم والسعى حثيثا فى طلب أرض كنعان كما فعل إبراهيم أب الآباء كما تحث على الصبر واحتمال التجارب والالتصاق بالرب التوكل عليه .
2- الثلاثة تقديسات بلحن الحزن مؤثرة جدا فيها تقديس لله غير المائت وطلب الرحمة من المخلص .
3- والمزمور فينص على التوبة وترك الآثام فيقول :"طوباهم الذين تركت لهم آثامهم وسترت خطاياهم , طوبى للرجل الذى لم يحسب له الرب خطية وليس فى فمه غش " (مز2,1:31). أما الإنجيل فيدعوا إلى إنكار الذات وإهلاكها من أجل الرب ثم حمل الصليب واتباعه فى طريق الجلجثة ( مر34: 8-الخ) .
4- فى الطرح يطلب أب الدير إلى الله من أجل الأخ قائلا :" اقبل إليك يارب صومه وتوبته واعترافه واغفر له جميع خطاياه ...."
5- فى صلاة أخرى يطلب أب الدير من أجل الأخ قائلا : قوم يارب سعيه , هب له طاعة كاملة ليكون فى موت من جهة الآلام الطبيعية لكى من قبل قص شعر رأسه يطرح عنه الأعمال الرديئة ويقبل معونة نعمة الروح القدس ..."
6- ينهض الأخ من رقدته ويقف أمام اب الدير مطأطئا رأسه فيأخذ أب الدير مقصا ويقص شعر رأسه خمسة صلبان وهو يقول الرشومات المعروفة .
وقص الشعر كما عرفناه هو رمز لقص وحلق وإبعاد الفكار الشريرة والهواجس الشيطانية التى تكتنف العقل الموجود فى الراس بقصد التوبة عنها .
7- يصلى أب الدير على ملابس الرهبنة ( الثوب الأسود والقلنسوة والمنطقة الجلدية ) ويرشمها بالرشومات الثلاثة المعتادة .
8- يلبسه الثوب وهو يقول " البس ثوب البر ودرع النور واصنع ثمرة تليق بالتوبة بالمسيح يسوع ربنا هذا ينبغى له المجد إلى الأبد أمين .
9- يلبسه القلنسوة وهو يقول " البس قلنسوة الاتضاع وخوذة الخلاص واصنع ثمرة صالحة بالمسيح يسوع ربنا ... " .
10- يمنطقه بالمنطقة الجلد وهو يقول " شد على حقويك بجميع رباط الله وقوة التوبة بالمسيح يسوع ربنا ..".
11- ثم يقرأعليه الوصية الرهبانية حاثا إياه أن يبدأ جهادا مقدسا وحياة رهبانية مثالية فيوصيه " .... واحفظ العهد الذى قررته الآن بأن تعبد الله بخوف ورعدة , وتتلو فى المزامير مع سهر الليل وتلاوة الأبصلمودية (أى المواظبة على التسبحة اليومية ) وصلاة الكنيسة المفروضة . تكمل ذلك بكل اجتهاد , مع صوم بمقدار ونسك وطهارة الجسد , لكى تكون صديقا للملائكة الأطهار . وأيضا الخضوع والطاعة تكملها واحرص أن تسمع لمن يرشدك إلى طريق الله ووصاياه إلى حد الموت لكى تنال تاج أبناء الله وترث ملكوت السموات ويكون لك نصيب وميراث مع كافة القديسين الذين أرضوا الله منذ البدء ....".
12- يحضر الراهب الجديد القداس الإلهى ويتناول من الأسرار المقدسة .
إنه طقس جميل , مجرد التأمل فيه يعطى النفس خشوعا وغيرة لحباة التوبة والفضيلة .
يبدأ الراهب حياته الجديدة وقد أصبح إنسانا جديدا . اسم جديد وشكل جديد ومكان جديد " الاشياء العتيقة قد مضت , هوذا الكل قد صار جديدا " (2كو17:5) .
الشكل الجديد الأسود الذى لبسه يحضه على التوبة والحزن على خطاياه السالفة , لأن الملابس السوداء يلبسها الناس عادة فى وقت الحزن والحداد على المنتقلين .
الاسم الجديد يحضه على الجهاد المقدس حينما يتذكر جهادات وفضائل القديس صاحب الاسم طالبا شفاعته ومعونته ليكمل جهاده مثله ويراه فى السماء وجهلا لوجه .
المكان الجديد يشجعه على حياة التوبة والجهاد عندما يسمع ويتذكر جهادات القديسين الذين سبقوه فى هذا المكان وقدموا حياتهم لله ذبيحة حية مرضية كاملة بعبادتهم وجهادهم ودموعهم واعراقهم ,وذلك سواء القديسين الذين سبقوه فى القلاية التى يسكن فيها أو فى الدير الذى ترهب فيه أو فى البرية التى يعيش فيها .
اخيرا , بعد كل ما تقدم نستطيع أن نقول فى ثقة وبإيجاز أن " الرهبنة حياة توبة , وكمال الراهب هو أن يحيا حياة التوبة الدائمة "...