تفسير إنجيل اليوم

ع46-47: لم ولا ولن يستطيع إنسان أن يرى الله، كما قال الله ذاته: "لأن الإنسان لا يرانى ويعيش" (خر 33: 20). أما المسيح، فلكونه "فى حضن الآب" (ص 1: 18)، وواحد مع الآب (ص 10: 30)، فهو الوحيد الأزلى الذى رأى الآب، والذى يستطيع أن يعلنه لنا.

"الحق الحق أقول لكم": تعبير استخدمه السيد كثيرا للتدليل على صدق ما يُعلّم به، وهو أنه لا حياة أبدية، ولا خلاص، لكل من لا يؤمن بالمسيح، الواحد مع الآب فى الجوهر.

ع48: "أنا هو خبز الحياة": يكرر المسيح ما أعلنه فى (ع 35)، وهو ما لم يفهمه اليهود، وتذمروا عليه. وهذه الآية، تعتبر مقدمة لما سوف يعلنه السيد من أسرار إلهية تتعلق بهذا الخبز.

          أخى الحبيب... فلنتعلم من السيد المسيح هنا ضرورة التمسك بالإيمان السليم، فالسيد المسيح أطال أناته، وأخذ يشرح، وسوف يكمل شرحه، ولكنه لم يتنازل أبدا، تحت وطأة الضغوط أو التذمر، عن التعليم السليم. وهكذا كانت كنيستك على مدار العصور، من أيام الرسل الأطهار، ومرورا باثناسيوس وكيرلس، وغيرهم من الذين حافظوا على الإيمان نقيا سليما، كما سلمه المسيح تماما، بلا تفريط ولا تبديل...

ع49: إذا كان المن هو أعظم العطايا الإلهية التى كان يفتخر بها إسرائيل، يوضح المسيح هنا أنه لم يكن سوى طعاما لإحياء الجسد، الذى نهايته الموت على كل الأحوال. وهذه الآية تعتبرمقارنة، ومقدمة لحديث طويل آت عن الخبز الحى الحقيقى...

ع50-51: يكشف لنا السيد المسيح هنا أعظم أسرار وعطايا العهد الجديد أنه هو الخبز النازل من السماء، فى إشارة واضحة لتجسده، وفى كونه مصدر حياة، فلا موت لكل من يأكله. فالمن إذن فى العهد القديم، كان رمزا يعطى الحياة للجسد. أما المسيح – خبز الحياة – فمن يأكله يحيا إلى الأبد، لأنه غذاء الروح، بعكس ما أراد أو فهم اليهود. وعبارة "يحيا إلى الأبد"، معناها أن الموت الجسدى لا يقدر أن يؤذيه. وملخص هذا، أن المسيح هو الإله الحى، ومانح الحياة، ويقدم جسده ودمه كخبز الحياة، فكل من أكل من هذا الجسد وشرب من هذا الدم، اتحد بمعطى الحياة وواهبها. فكيف يموت إذن؟ بل الموت الذى فينا، يصيرحياة باتحادنا بهذا الخبز السماوى.

          فهل فهمت الآن، أيها العزيز، مدى اهتمام الكنيسة بسر التناول الأقدس، ودعوتها المستمرة لكل أبنائها بالاشتراك فيه، لأنه هو الحياة الأبدية... هو الاتحاد بالمسيح... هو مغفرة الخطايا.

ع52: "خاصم اليهود": أى انقسم اليهود بين مؤيد ومعارض لما أعلنه المسيح من أنه خبز الحياة، وجسده المبذول من أجل خلاص العالم. وعدم الفهم هذا، يذكرنا بكل من نيقوديموس (ص 3) والسامرية (ص 4)، فى عدم إدراكهم للأسرار الإلهية. وتعبير "كيف يقدر؟!"، يحمل أيضا شيئا من التهكم على ما قاله المسيح.

ع53: إلا أن المسيح يجيبهم بما هو أكثر صعوبة، فليس أكل الجسد فقط، بل شرب الدم أيضا، واستخدام المسيح تعبير "ابن الإنسان"، هو إشارة لتجسده وموته؛ وبموته كذبيحة يبذل جسده من أجل حياة العالم. وكما كان خروف الفصح ذبيحة ارتبطت بالأكل منها بخلاص ونجاة كل شعب إسرائيل، فهكذا جسد المسيح المبذول يعطى النجاة والخلاص. أما الممتنع والرافض لهذه الذبيحة الحية، فهو ميت روحيا فى هذه الحياة، وكذلك فى الدهر الآتى.

          فتعال أيها الحبيب وتمتع بأعظم العطايا الإلهية، ولا تحرم نفسك من الحياة فى المسيح وبالمسيح، فأنت شهوة قلبه، وموضوع حبه؛ فلا تحرم نفسك منه، ولا تدعه ينتظرك.

ع54: ذبيحة المسيح، جسده ودمه وخلاصه، مُنِحَ لكل العالم. ولكن، لن يتمتع بالحياة الأبدية، إلا من أكل من هذه الذبيحة. إذن؛ فالتناول من جسد الرب ودمه، صار شرطا لهذا الخلاص والميراث الأبدى.

ع55: أى ليس رمزا ولا صورة، بل حقيقة. وهذه الآية، هى أبلغ الآيات التى ترد على كل من ادعى أن ذبيحة المسيح، فى سر التناول الأقدس، ليست إلا رمزا أو ذكرى، متجاهلين تأكيد المسيح بأن جسده مأكل حق ودمه مشرب حق. ولا نعرف ماذا يطلبون أن يقول المسيح أكثر من هذا حتى يؤمنوا؟!

ع56: هبة جديدة يعطيها التناول من جسد المسيح ودمه، وهى هبة وعطية الثبات، فالغصن المقطوع لا قيمة له ولا حياة فيه. ولكن، إن ثبت الغصن فى الأصل كان الثمر، والمسيح نفسه القائل: "بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا" (ص 15: 5)، فكما تسرى عصارة الحياة إلى أغصان الشجرة، هكذا دم المسيح فى اجسادنا يعطينا ثباتا واتصالا ونموا...

ع57: أبى مصدر الحياة وأنا الحياة ذاتها (كأن نقول: الآب هو العقل، والابن هو التفكير.) وأنا أعطى الحياة الروحية الأبدية لكل من يأكل ذبيحة جسدى.

ع58: يختم السيد المسيح حديثه هنا عن جسده ودمه، بالعودة إلى بداية الحديث (ع 32، 33) فى المقارنة بين عطية طعام الجسد "المن"، وبين العطية الأعظم، أى جسده المبذول من أجل حياة العالم. وهذه الآية تأتى كملخص لكل ما قيل، وتأكيد لما سبق فى الأعداد (33، 50، 51، 54، 57).

          إلهى الحبيب... نسجد لك شكرا على عظم غنى عطاياك التى هى فوق عقولنا وإدراكنا، ولا يفهمها إلا من ولد من الروح القدس بالمعمودية، هذا الذى ترنم به القديس أغريغوريوس فى القداس الإلهى: "أنت الذى أعطيتنى هذه الخدمة المملؤة سرا... أعطيتنى إصعاد جسدك بخبز وخمر."

نشكرك يا إلهنا، لأن فى جسدك الحياة الأبدية (ع51)، والقيامة الثانية (ع54)، الثبات فيك (ع56)، والاتحاد بك مع الآب من جهة الحياة (ع57).

أعطنا ألا نفارق مائدة الحياة – مذبحك المقدس – حيث عطية جسدك الأقدس.

ع59: حرص القديس يوحنا أن يذكر أن هذا الحديث كله كان فى المجمع، وقصد بتحديد المكان فى نهاية الحديث، أن يعلن إنه لم يكن حديثا خاصا للتلاميذ، بل هو إعلان لحقائق إيمانية على الملأ، أمام الكهنة وكل الشعب.

ع60-61: التلاميذ هنا لم يُقصد بهم الاثنى عشر والسبعين رسولا الآخرين، ولكن المقصود كثيرين من الذين كانوا يتبعونه من مكان لمكان، معتبرين أنفسهم تلاميذَ له... وأما ما أعثرهم فيه، هو أمرين: قوله بأنه خبز الحياة النازل من فوق، والتأكيد على ضرورة أكل جسده وشرب دمه، إذ فهموا كلامه بصورة حرفية. فعلم يسوع بلاهوته أن كلامه يعثرهم، وأخبرهم بهذا.

ع62: إذا كنتم لا تقبلوا ما قلته الآن، فكيف يكون حالكم إذن وأنتم تروننى صاعدا إلى السماء، حيث مكانى أولا؟ فالمسيح، حتى الآن، لم يحل لهؤلاء مشكلتهم الأولى فى أكل جسده وشرب دمه، بل زاد عليها مشكلة جديدة، إذ يتحدث عن أزليته، مشيرا إلى صعوده لحضن أبيه، حيث كان أولا قبل تجسده (مر 16: 19؛ لو 24 :51؛ أع 1: 9).

ع63: المعنى المبسط لهذه الآية، هو أن المسيح يقدم لمن أعثروا فى كلامه الحل، وهو أنه لابد من الإيمان بكلامه روحيا، بعيدا عن الفهم العقلى والمادى المحدود، كلامى "هو روح وحياة". ومعنى "أما الجسد فلا يفيد شيئا"، فقد أجمع كل من اغسطينوس والقديس كيرلس الكبير على أن المعنى الذى قصده المسيح هو: إذا كان تصوركم هو أكل جسدى بالفهم المادى، كأنكم تأكلون لحما ماديا، فهو لا يفيد شيئا فى الحياة الأبدية. ولكن الذى يفيد، أن تأكلوا جسدى الحقيقى متحدا بلاهوتى. وهو ما شرحه لتلاميذه بعد هذا لاحقا فى العشاء الربانى يوم خميس العهد، فأعطاهم جسده ودمه تحت أغراض الخبز والخمر. وهذا هو الإيمان الروحى المعطى للحياة الأبدية. راجع تاسيس السر فى (مت 26: 26، مر 14: 22، لو 22: 17، 19).

ع64: إشارة قوية للاهوت الابن، من حيث المعرفة السابقة والقاصرة على الله، فهو يعرف أن من بين الذين يسمعونه قوم لا يؤمنون بكلامه. ولكى نعلم إنه ليس استنتاجا للمسيح نتيجة قراءة وجوه الجمع، يضيف القديس يوحنا كلمتا "من البدء"، لتأكيد هذا الجانب اللاهوتى فى المعرفة السابقة للمسيح، مشيرا أيضا إلى أن معرفة المسيح، ليست فقط لمن لا يقبل كلامه، بل للتلميذ المزمع أن يسلمه أيضا.

ع65: يذكرهم المسيح بما قاله سابقا فى ع 44، 45 إنه لا يستطيع الإنسان أن يأتى أو يُقبل إلى المسيح، ما لم يكن الإيمان الذى وضعه الآب فى قلبه، هو الدافع الحقيقى والوحيد. أما من يأتى لدافع نفعى، أو ذاتى، أو سياسى كتحرير اليهود، فسيكون المسيح له حجر عثرة؛ وهو ما قاله سِمعان الشيخ فى نبوته إنه "وضع لسقوط وقيام كثيرين فى إسرائيل" (لو 2: 34).

ع66: أى الناس الذين رفضوا قوله بأن جسده مأكل حق ودمه مشرب حق.

          إلهى الحبيب، نرفع لك صلاة موضوعها هؤلاء الذين يتركونك كل يوم إلى الوراء، ولم يعودوا معك يسيرون... يتركون ينبوع الحياة الحى، ويتركون أحضان حبك، إلى ماذا يا إلهى... إلى ماديات ومشاغل، لا يجنى منها الإنسان سوى تعبا دون راحة... إلهى... لا تسمح لنا، نحن الضعفاء، أن يشغلنا شئ عنك، بل نظل معك فى كنيستك، نأخذ من حبك وعطائك، خادمين لاسمك القدوس طوال أيام عمرنا... آمين.

ع67-68: ليس المقصود أن المسيح يريد أن يعرف قصدهم، وهو العارف منذ البدء، من الذى يتركه ومن الذى يتبعه، ولكن هذا السؤال، كان الغرض منه امتحان إيمانهم وإقرارهم به. ولهذا، جاءت إجابة بطرس موافقة تماما لسؤال المسيح، وكانت تعبيرا أيضا عما بداخل باقى التلاميذ، وتحمل إيمانا قويا. وعبارة "إلى من نذهب؟" تعنى أنه ليس لنا سواك، ولا نستطيع أن نرتد إلى الوراء كما فعل الآخرين. وعبارة "الحياة الأبدية عندك"، هى تصديق لكل ما قاله المسيح فى الأعداد السابقة عن الحياة الأبدية، وأنه مصدرها ومانحها من خلال أنه خبز الحياة وعطية جسده ودمه الأقدسين.

ع69: يكمل بطرس حديثه، فى إعلانه عن موقف التلاميذ معه، فى أن أساس تبعيتهم للمسيح هى الإيمان المعطى من الآب لهم، وهى تبعية سوف تستمر، بصرف النظر عمن تركوه: فإيماننا بك أنك أنت هو المسيح المخلص، وأنك أنت ابن الله الحى، لن يدع لنا مجالا آخر لتركك، وإلا صرنا كأننا نترك الحياة إلى الموت، والأبدية إلى الهلاك.

ع70-71: يستكمل السيد المسيح استعلان معرفته الإلهية بتصحيح كلام بطرس، فيقول له: لقد تكلمت يا بطرس عن سائر إخوتك التلاميذ بكلام الإيمان الحسن، ولكن ليس هذا إقرار الجميع كما قلت، لأن بينكم من لا يؤمن، بل ملأ الشيطان قلبه، وهو الذى يسلمنى ويخوننى...

ولنلاحظ هنا قول السيد: إنه بالرغم من اختيارى وتلمذتى لكم، فوسطكم شيطان. وهذا معناه أن الله يختار الإنسان ويدعوه، ولكن الإنسان قد يثبت أو يترك الله بإرادته الحرة. وبالتالى، فإن التعليم بأن المؤمن لا يهلك أبدا هو تعليم غريب، فالله أيضا اختار يهوذا، ولكن يهوذا لم يثبت فى هذا الاختيار، فكان هلاكه.