تقرأ بعد انجيل قداس يوم الجمعة من الاسبوع الاول من الصوم الكبير
تتضمن الحث على الصلاة وبيان حدودها وكيفيتها .
مرتبه على قول البشير بفصل الإنجيل :
" قال واحد من تلاميذه يارب علمنا أن نصلى ..
فقال لهم متى صليتم فقولوا أبانا الذى فى السموات .. "
( لو 11 : 1 - 10 )
إن السيد المسيح له المجد علم الناس ضمن خطبته هذه التى ألقاها على الجبل – حدود الصلاة وكيفيتها . ولزومها وفائدتها . موبخاً اليهود والامم على ما أدخلوه عليها من الخلل بقوله : " إذا صليت فلا تكن كالمرائين فانهم يحبون أن يصلوا قائمين فى المجامع وفى زوايا الشوارع لكى يظهروا للناس . الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم . وأما أنت فمتى صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك الذى فى الخفاء . فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية . وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالامم . فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم . فلا تتشبهوا بهم . لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه " ( مت 6 : 5 – 8 ) .
فلا يتبادر إذن إلى ذهن أحد أن السيد المسيح له المجد بقوله : " وأما أنت فمتى صليت فأدخل مخدعك .. " ينهى عن الصلاة العمومية الجارى استعمالها من قديم الزمان لدى اليهود والنصارى كما يذكر ذلك سفر الملوك الأول ( 1 مل 8 : 19 – 30 ) وسفر أعمال الرسل ( أع 1 : 25 و6 : 6 و 12 : 12 ) . وإنما ينهى فقط عن التباهى بالصلاة كما يتضح ذلك من قوله تعالى : " لكى يظهروا للناس . الحق أقول لكم إنها قد استوفوا أجرهم " ( مت 6 : 5 ) . ولا يتبادر إلى الذهن ايضاً أنه تعالى بقوله : " وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم . فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم .. " ( مت 6 : 7 و 8 ) ينهى عن استعمال الصلوات الطويلة . كلا . بل إنما هو ينهى عن كثرة الكلام الباطلة كما يصنع الأمم وغيرهم فى زماننا الحاضر . ظناً منهم أنهم بكثرة كلامهم ينالون ما يطلبون . وإلا فلماذا يسوع نفسه قضى الليالى ساهراً ( مت 26 : 36 – 44 ) أليس ليعلمنا ؟ ولماذا أمرنا أن نصلى ولا نمل ( لو 18 : 1 ) ولماذا قال : " اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة " ( مر 14 : 38 ) إلا لان الصلاة هى ابتداء لكل خير . وسبب لكل خلاص . وميناء للحياة الأبدية . ولانها أفضل واجبات الانسان نحو الله . وأجمل أعماله . وقوام حياته الادبية . ومرقاة نفسه وصلة اتحادها بالله . وبالإجمال فإن الصلاة أمر عظيم جداً وما من شئ أعظم من مناجاة الانسان لبارئه .
وهى أما أن تكون دعاء أو تسبيحاً . فالدعاء قد يكون استغفاراً أو استغاثة أو طلباً . والتسبيح إما أن يكون تمجيداً أو تنزيهاً أو شكراً أو تعجباً أو مدحاً . بحسب يقتضيه الحال . ويخبرنا البشير بأن السيد كان يصلى ولما فرغ من الصلاة قال له واحد من تلاميذه : " يارب علمنا أن نصلى .. فقال لهم متى صليتم فقولوا : أبانا الذى فى السموات ... " أى الصلاة الربانية . تلك الصلاة الموجزة العظيمة التى وضعها اليسيد لتكون نموذجا لنا فى تضرعاتنا ومقياسا نقيس عليه صلواتنا وإبتهالاتنا . وهى ست طلبات : الثلاث الأولى من قبيل التسبيح وهى قوله : " ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك . لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض " والثلاث الاخيرة تندرج ضمن الدعاء . منها قوله : " خبزنا كفافنا اعطنا اليوم " من قبيل الطلب والمنح . وقوله : " واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا " من قبيل الأستغفار . وقوله : " ولا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير " ( مر 11 : 1 – 4 ) من قبيل الإستغاثة . أما الخاتمة الأخيرة فأنها من قبيل التمجيد وهى : " لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد . أمين " ( مت 6 : 13 ) .
ومناجاة الله بواسطة الصلاة فرض على الإنسان . ترشده إليه الطبيعة والوجدان . ولم يجهله قوم من الأقوام مع اختلاف الأديان . وتنوع الأجناس وتباعد البلدان . بدليل وجود آثار الهياكل والمعابد القديمة فى جميع الأقطار . ولا غرابة فى ذلك إذ أن من طبيعة الحال أن يلتجئ المريض إلى الطبيب . والضعيف إلى القوى . والفقير إلى الغنى .
والانسان من حيث الجسد عرضة لعدة مصائب . كالأمراض المختلفة والجوع والعطش وغير ذلك . أما من حيث النفس فهو معرض لآلامها وكل شهواتها التى هى أهواء الخطايا واميال الرغبات القبيحة كالغضب والضغينة والطمع والحسد والعجب والفجور وكره الصالحات والميل إلى الشرور . فهو فى حرب دائمة . مع ضعف عزيمته ووهن قواه ومضطر إلى الاستغاثة . ولا يجد مغيثا سوى الله الذى لا يصل إليه الا بواسطة الصلاة . فالانسان إذن يحتاج للصلاة كإحتياج الزرع إلى المياه والجسد إلى الحياة . وملزم بآداء الصلاة إذا شاء النجاة . ولهذا قال السيد المسيح له المجد : " اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة . أما الروح فنشيط . وأما الجسد فضعيف " ( مت 26 : 41 ) .
نعم ان الله عالم بكل ما نحتاج اليه قبل ان نسأله . ولكنه قد رتب بأن لا يمنح شيئا بدون صلاة وذلك بقوله : " اسالوا تعطوا . أطلبوا تجدوا . أقرعوا يفتح لكم " ( مت 7 : 7 ) فمن لا يسأل لا يعطى . ومن لا يطلب لا يجد . ومن لا يقرع الباب لا يفتح له . يريد بذلك أن نظهر له تعالى تعلقنا به . وخضوعنا له مقرين بحقارتنا وعظمته . وضعفنا وقوته . ثم افتقارنا إلى معونته ونعمته . وان كل ما لنا من الخير هو من احساناته . إذا أنه هو الذى يعطى الجميع حياة ونفسا وكل شئ " ( أع 17 : 25 ) .
فصلوا ايها الاحباء لئلا تدخلوا فى تجربة . وليصل من يكون فى حال الخطية لكى يمنحه الله نعمة التوبة . وإلا فإنه يموت بخطيته ويهلك . صلوا متى كنتم فى خطر السقوط فى الخطية لكى تنجوا من شرها . فلو صلى آدم وحواء لما سقطا . ولم لم يصل يونان من بطن الحوت لما نجا ( يون 2 : 1 – 10 ) وبواسطة الصلاة اقام اليشع النبى ابن الشونمية ( 2 مل 4 : 1 – 37 ) وسد دانيال أفواه الأسود ( دا 6 : 10 – 23 ) . وبها أخمد الثلاثة فتية قوة النار ( دا 3 : 1 – 37 ) . وبها منع إيليا نزول المطر ثلاث سنين وستة أشهر . وبها أعطت السماء مطرا وأخرجت الأرض ثمرها ( يع 5 : 17 و 18 ) وبه ايضا استطاعت يهوديت أن تقطع رأس اليفانا قائد الجيوش ( يهوديت 13 ) .
هذا عدا آيات أخرى كثيرة تبين ضرورة الصلاة وشدة فاعليتها . قد عدلنا عن ذكرها مراعاة للأختصار .
فإن قلت يا هذا ان كل من ذكرت أسماؤهم كانوا قديسين . ولهذا قد استجاب الله لصلاتهم . أجبتك إن الله يسمع أيضا للخطاة التائبين . فإن داود بعد ارتكابه خطيتى القتل والزنى قال أمام ناثان النبى : " أخطات إلى الرب " ففى الحال إجابه النبى قائلا : " الرب أيضا نقل عنك خطيتك . لا تموت " ( 2 صم 12 : 12 و 13 ) وصلى منسى الخاطئ إلى الرب فاستجاب له الله وسمع تضرعه ورده إلى اورشليم إلى مملكته " ( 2 أى 33 : 1 – 13 ) .
فعليك إيها الحبيب بالصلاة وانت بحال النعمة . وان كنت مدنسا بالخطايا فاندم واعترف . لأن صلاة الخاطئ غير التائب ترجع اليه فارغة وتهيج سخط الله عليه . ويقول الرسول إن الخطاة يصلبون ابن الله ثانية ( عب 6 : 6 ) فهل تريد أن تكون كذلك ثم تتقدم إلى الله لتطلب منه شيئا قبل أن تستغفر عن ذنبك . أما أنا فلا أريد أن يكون أحدكم هكذا . بل الذى أريده هو أن تكون صلواتكم كاملة . وبأسم يسوع القائل : " مهما سألتم باسمى فذلك أفعله ليتمجد الآب بالأبن " ( يو 14 : 13 ) . وان تكون بتواضع . لأن صلاة المتواضع تنفذ الغيوم ولا تستقر حتى تصل السماء ولا تنصرف حتى يفتقد العلى ( ابن سيراخ 35 : 21 ) . وكما أن البلسم الحقيقى لا يعرف إلا بنزوله إلى اسفل ورسوبه . هكذا الصلاة الحقيقية لا تعرف إلا بإتضاع صاحبها وتنازله عن كبريائه . ولنا فى مثل الفريسى والعشار أعظم عبرة ( لو 18 : 9 – 14 ) . وهل يجهلون المثل الطبيعى : على قدر النزول يكون الصعود .
يقول البعض إنى اصلى كثيرا واطلب من الله كل يوم ولكنى لم أنل شيئا للآن . ولذلك عدلت عن الصلاة لبطلانها وعدم فائدتها . مهلا أيها الانسان ألا تعلم أنه ربما تكون صلاتك غير كاملة ولا مقبولة لسبب عدم ثقتك . والرسول يقول : " أن المرتاب يشبه موج البحر الذى تسوقه الريح وتخبطه . فلا يظن مثل هذا أنه ينال من الرب شيئا " ( يع 1 : 6 و 8 ) . أو تكون لأن الله علم بأن ما تطلبه يضرك ولا ينفعك ولذلك لم يستجب لطلبتك كذلك الطبيب الذى يمنع عن المريض ما يعرف أنه مضر بصحته .
أنا أعرف كثيرين يأتون إلى الكنيسة لأجل الصلاة ثم يعودون إلى منازلهم بدون فائدة . لانهم يحضرون بأجسامهم فقط ويدعون عقولهم تنشغل بالامور العالمية . كما أن آخرين يصرخون ويضجون فى صلواتهم حتى يزعزعوا المكان وآخرين يتمتمون طول زمانهم فى صلواتهم وهم يتمشون بضجة وبدون ترتيب كأن المشى والضجة من أركان صلواتهم . أنا لا أدرى ماذا أقول لهؤلاء الذين يهينون الله ويظنون أنهم يرفعون اليه تعالى واجب الصلاة .
إن كنت يا هذا وقفا أمام أحد الرؤساء المائتين مثلك لطلب شئ لازم لك . فلا يمكنك أن تتمشى أمامه أثناء الخطاب . ولا أن تتركه بدون استئذان لمقابلة أو مكالمة صاحب مر بك فى ذلك الوقت ثم تعود لتكمل طلبتك . ولا أن تجلس أمامه . لانك إن فعلت شيئاً من هذه يأمر فى الحال بطردك من حضرته . فكيف تتجاسر إذن على ملك الملوك ورب الإرباب أثناء الصلاة بعدم الوقوف فى مكان واحد بأدب وخشوع وتتمشى من اليمين إلى الشمال . لتنظر المارين والرائحين ؟ اعلم يا هذا إن صلاتك بهذه الصفة لا تعد صلاة . وهى التى قال النبى بشأنها : " صلاته فلتكن خطية " ( مز 109 : 7 ) .
الم تسمع يا هذا ولو مرة واحدة فى حياتك قول السيد له المجد : " ومتى صليت فلا تكن كالمرائين . فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين فى المجامع وفى زوايا الشوارع لكى يظهروا للناس . الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم . وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصل إلى ابيك الذى فى الخفاء . فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية " ( مت 6 : 5 و 6 ) .
فسبيلنا أيها الأحباء أن نتعلم من هذه الأقوال الصلاة الحقيقية . ليس التى نعملها حينما ندخل فى مخدع بيتنا المادى . ونغلق أبوابه المادية . لأنه حينئذ ينظرنا الناس . بل فى بيتنا الداخلى وبغلق أبواب المشاغل والهموم الجسدية وبإتجاه عقولنا نحوه تعالى . حتى تكون صلاتنا كاملة . فتصعد لدى عزته كبخور طيب الرائحة . فيعطينا أعظم المواهب ويغفر لنا خطايانا . له المجد إلى الأبد آمين .