تفسير إنجيل اليوم

ع1-2: لعازر شخصية محبوبة للرب، له المجد، مع أختاه. وكان منزله بمثابة محطة، يستريح فيها المسيح أثناء تجواله. واسم "لعازر" معناه: "الله الذى آزر". وقرية "بيت عَنْيَا" معناها: "بيت العناء"، وتبعد عن أورشليم حوالى 3كم.

والإشارة إلى مرض لعازر هنا، هى مقدمة لباقى أحداث الأصحاح.

وقصة دهن مريم بالطيب للمسيح، تأتى بالتفصيل فى (ص 12: 3-8).

ع3: كان المسيح فى عبر الأردن، عندما أرسلت إليه الأختان، بدالة الحب والصداقة الأسرية، برجاء شفاء أخوهما. ولم يكن المسيح محتاجا لمن يذكره بأنه يحب لعازر. ولكن، ما ذكرته الأختان، وهذه الكلمات هى نوع من الترجى الشفاعى، ليأتى المسيح بسرعة أكثر.

            ونتعلم من مريم ومرثا، مما صنعتاه بإرسال رسول إلى المسيح، أن نرسل صلواتنا إليه من أجل أحبائنا المرضى، ليس فقط الذين نعرفهم على وجه الخصوص، ولكن لكل المرضى على وجه العموم.

ع4: "ليس للموت": إجابة المسيح هنا دليل على لاهوته، فهو يجيب صاحب الرسالة العاجلة، على مسمع من تلاميذه، بأن "هذا المرض ليس للموت"، ودليل أيضا على علمه السابق بكل ما سيأتى من أحداث هذه القصة. بل يكرر السيد ما قاله سابقا فى (ص9: 3) قبل شفاء المولود أعمى؛ وهو أن كلا المرضين كانا بترتيب إلهى يُستعلن من خلاله قدرة الابن على خلق العينين والإقامة من الأموات.

ع5-6: "كان يسوع يحب": هو مثال لحب المسيح لكل خليقته، وخاصة هذه القلوب والاعين المتعلقة به.

          وقد ذكر القديس يوحنا هنا هذا الحب، ويؤكده، حتى لا يسرع القارئ ويقول: كيف يهمل السيد المسيح رسالة الرسول الهامة بمرض حبيبه لعازر، ويمكث لمدة يومين بعيدا ومتباطئا؟! فالمسيح يحب، وهذه حقيقة. وعلينا أن نتعلم أمورا روحية حسنة، وهى حكمة الله فى تدبير الأوقات؛ فصلواتنا مرفوعة لديه فور النطق بها. ولكن الاستجابة وتوقيتها، تتوقف على حكمة الله فى تدبير الأوقات "لكل شىء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت" (جا 3: 1)، والتأخر أحيانا يأتى بفوائد أكثر... وقد يكون اختبارا لإيمان وثقة الإنسان فى الله...

ونتعلم أيضا ألا ندين الناس إذا تأخروا فى السؤال عنا، لعل كان لديهم من الأمور الهامة ما يشغلهم عنا، بل نلتمس لهم الأعذار.

ع7: واستجاب قلب المسيح المحب، فى الوقت الذى رآه مناسبا. فبعد اليومين، توجه إلى بيت عَنْيَا فى اليهودية، تاركا بيت عبرة فى عبر الأردن، آخذا معه تلاميذه الذين سيصبحون شهودا لهذا الحدث العظيم.

ع8: لا زالت أحداث عيد التجديد، وحديث السيد عن الرعية والراعى، ومحاولة اليهود رجم الرب يسوع أو القبض عليه، ماثلة أمام أعين التلاميذ. ولهذا، جاء استفسارهم الاعتراضى عن الذهاب لليهودية، وخوفهم على المسيح، وعلى أنفسهم، من بطش اليهود.

ع9-10: ما قاله المسيح للتلاميذ فى هذين العددين، هو على سبيل المثل الإيضاحى؛ فالمسيح هو نور النهار، وساعات النهار هى زمن خدمته المحددة على الأرض. وبالتالى، لا داعى للخوف، ما دام الوقت نهارا وأنا معكم. وقد أوضح المسيح ذلك عندما قال: "النور معكم زمانا قليلا بعد، فسيروا فى النور ما دام لكم النور" (ص 12: 35)، وكأنه يقول لا تخافوا، فلن يستطيع أحد أن يؤذيكم، لأنى أولا أنا معكم، ثانيا ليس لأحد سلطان علىّ لأن ساعتى لم تأت بعد، فاجعلوا حالكم كمن يسافر نهارا وهو لا يخشى شيئا، قبل أن يأتى الظلام.

ع11: "لعازر حبيبنا": يعبر المسيح هنا عن علاقة الحب التى تربطه بلعازر، وقد ضم لها التلاميذ أيضا.

          ولكن المعنى الروحى، أن المقصود لم يكن لعازر وحده، فالمسيح يحبك أنت، ويحبنى أنا أيضا، ويحب كل أولاده. ألم ينادنا جميعا فى سفر نشيد الأناشيد باسم "حبيبتى"؟ قد تدعو الله فى صلاتك "حبيبى". ولكن، هل تسمعه أيضا وهو يدعوك حبيبا، وكم يكون صداها فى نفسك؟ بل هو أيضا يدعوك حبيبا أمام تلاميذه وكل قديسيه.

"قد نام": استخدم المسيح هذا التعبير، ليعلمنا أن الموت الذى يأتى على أبنائه بالجسد، ليس هو موتا، بل نوما هادئا يعقبه قيامة وحياة أبدية.

          ولهذا، فالكنيسة فى الصلاة على الراقدين تقول: "ليس موتا لعبيدك بل هو انتقال." ولكن الموت عند المسيح، يعنى الهلاك نتيجة عدم الإيمان به، أو رفض وصاياه، أو كبرياء الإنسان، أو رفض الأسرار الكنسية، فهذا هو الموت الحقيقى الذى لا يعقبه حياة، بل دينونة.

"أذهب لأوقظه": إشارة لعمله اللاهوتى فى إقامة لعازر من الموت. وهذه الإشارة لم يفهمها التلاميذ، لكنهم سيدركون معناها بعد معجزة القيامة.

ع12-14: فهم التلاميذ كلام المسيح حرفيا، دون الوصول لقصده. ولما كانت رغبتهم القلبية، لا زالت لا تريد الذهاب إلى اليهودية، قدموا نومه كدليل على بداية شفائه... وهو ما يحدث فعلا فى كثير من الأمراض، مثل الحمى، فبداية النوم لفترة طويلة تسبق الشفاء... وأمام هذا الابتعاد عن الفهم، أعلن المسيح صراحة قصده السابق، وهو إعلان موت لعازر بالجسد.

ع15: "أنا افرح لأجلكم": لم يفرح السيد بموت لعازر، بل من أجل علمه بما سيحدث، فإن إقامة لعازر ستكون سببا كبيرا فى تدعيم إيمان التلاميذ أمام أحداث الصليب، والتى اقتربت جدا. كذلك، فهناك الكثيرين، بجانب التلاميذ، سوف يؤمنون بالمسيح بعد هذه المعجزة... ويوضح أيضا سبب فرحه... بانه لم يكن هناك وقت مرضه، وذلك لأن المعجزة كانت ستكون أقل شأنا، وشاهد التلاميذ أمثلة متكررة لها... ولكن التأثير سيصير أعظم عندما يقام من مات له أربعة أيام.

ع16: الحديث هنا جانبى بصوت خفيض من توما - الذى يُعرف بشكه وقلقه – للتلاميذ. وكأن توما يقول إن المعلم لم يسمع لنصحنا، وتوسلنا إليه. وبالتالى، فالنتيجة الحتمية هى قبض اليهود عليه وعلينا، وموتنا جميعا معا.

          وما فعله توما حينذاك، يفعله كثيرين أيضا من هؤلاء الذين يسبق عقلهم إيمانهم. وبدلا من أن يصدقوا خبر الإيمان، يشككون البسطاء فى إيمانهم، بسخريتهم مثلا من المعجزات، أو قدرة الله، أو سلطان القديسين.

يا إلهى، لا تجعل من عقولنا موانعا وسدودا تمنع تيار الإيمان، بل افتح قلوبنا، فنقبل ونُخبر أيضا بعظيم أعمالك.

ع17-19: "أربعة أيام": هى المدة ما بين إبلاغ المسيح لتلاميذه بنوم لعازر، وتركه عبر الأردن إلى اليهودية. وبيت عَنْيَا تبعد عن أورشليم حوالى 45 دقيقة سيرا على الأقدام. ومثل عادة معظم المجتمعات حتى الآن، فقد اجتمع العديد من أهل القرية لعزاء مريم ومرثا فى بيتهما.

ع20: يُفهم من النص أن المسيح لم يذهب إلى بيت لعازر، بل إن هناك رسولا أخبر مرثا، التى خرجت مسرعة لمقابلة المسيح خارجا، وتركت مريم بين المعزّين، ومريم لم تعرف، وإلا كانت قد خرجت هى الأخرى معها. وتتضح عدم معرفتها من (ع28)، عندما أخبرتها مرثا لاحقا "المعلم قد حضر".

ع21-22: بتلقائية وببساطة، تكلمت مرثا بما تشعر به، فقد عبّرت عن أسفها بعدم وجود المسيح وقت مرض أخوها، فهى تعلم أن حبه لشخص لعازر من جهة، واعتباره نبيا بارا صنع معجزات شفاء كثيرة قبلا، وأن كل ما يطلبه من الله يستجاب له من جهة أخرى، كان كفيلا بشفائه ومنع موته. وقولها: "الآن أيضا"، كان يعنى انتظارها شيئا من المسيح، وهو غالبا إقامة أخيها، ولكنها غير واثقة من ذلك، بدليل باقى حديثها.

          ولعل أهم ما نتعلمه هنا من مرثا، بساطة الحديث وصراحته، وهى عناصر هامة كثيرا ما تخلو منها صلواتنا. فيجب علينا أن نتحدث مع الله بكل ما نشعر به، سواء ضيقا أو طلب معونة، أو شكر على ما جاد به علينا؛ فالصدق والصراحة أساس للصلاة المقبولة.

ع23-24: مقابلة جديدة يقدمها القديس يوحنا، كما اعتاد على إبراز الفرق الكبير بين ما يقصده الله، وبين ما يفهمه الإنسان. فالمسيح هنا يوضح أن لعازر سيقوم بالحقيقة، لأن القيامة والحياة هى من خصائص وسلطان الابن الوحيد، اللتين يمنحهما لمن يريد من ذاته. أما مرثا، فلم تفهم هذا البعد اللاهوتى فى شخص المسيح بعد. ولهذا إجابته، بما هو راسخ فى أذهان كل الناس، بأن أخوها "سيقوم" أيضا كما الجميع، "فى اليوم الاخير"، أى يوم القيامة العامة لكل الناس.

ع25: يجيب المسيح هنا مصححا للمفاهيم، ومعلنا عن لاهوته فى قدرته الذاتية، إنه هو "القيامة" ومصدر "الحياة". والقيامة ممكنة فى أى وقت بحسب مشيئته وقدرته، وليست فى اليوم الأخير فقط كما هو فى أذهان الناس، وكل من يموت بالجسد، مثل لعازر، ولكنه "آمن" به "فسيحيا"، أى تكون له الحياة الأبدية. فالموت الجسدى لا يمس الروح بشئ، ولكن موت الروح - بالخطية - يعتبر عدم إيمان بالمسيح. وبالتالى، لن تكون له قيامة الحياة، بل الدينونة الأبدية.

          وهذا الإيمان، يجعلنا ندرك سر عدم خوف آباؤنا الشهداء من الموت. فالموت من أجل اسم المسيح، اعتبروه بداية للحياة، وعربونا للقيامة الحقيقية.

"أنا هو القيامة والحياة": تعبير مملوء رجاء لكل نفس لا زالت تئن من موت الخطية. فالمسيح يعلن لها أنه سر قيامتها وحياتها، إن أرادت القيامة من موتها.

تعالوا إذن نقدم هذا المسيح المقيم لكل نفس بعيدة عن كنيسته فنتمتع بمعجزات قيامة يومية فى كنيسته بعودة كل من "كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد" (لو 15: 24، 32).

ع26: يضيف الإيمان بالمسيح ميزة أخرى لمن آمن به، وهى عدم الموت الأبدى، وذلك فى استكمال لمعنى الآية السابقة. فليس فقط من كان ميتا سيحيا، بل إن من هو حى "فلن يموت إلى الأبد". وهذه التكملة، تجعلنا ندرك الفرق بين مفهوم الموت عند العالم من جهة، وعند الله وأولاده من جهة أخرى، كما سبق إيضاحه فى (ع25).

"أتؤمنين بهذا؟": نفس السؤال سأله المسيح للمولود أعمى (ص 9: 35). وكان المسيح يؤكد، مرارا وتكرارا، أن الإيمان بشخص المخلّص، هو أساس الخلاص والشفاء والعطايا، التى أهمها جميعا، القيامة وعدم الموت.

ع27: يأتى إعلان إيمان مرثا هنا، مقابلا لإعلان بطرس فى (مت 16: 16) فى أن المسيح هو الابن المتجسد، والآتى إلى العالم من أجل خلاصه.

ويعلق القديس يوحنا ذهبى الفم أن مرثا مثل بطرس، لا تستطيع وحدها أن ترقى إلى هذا المستوى من الإعلان، بل إن الروح القدس أعلن على لسان مرثا، كما أعلن على لسان بطرس. أما الإيمان اليقينى بشخص ربنا يسوع المسيح، كابن الله المخلّص، فقد استُكمل بعد القيامة، واستُعلن بعد حلول الروح القدس على التلاميذ.

ع28-29: "دعت مريم أختها سرا": أى أن مرثا عادت إلى المنزل، وأبلغت أختها بحضور المسيح. وكلمة "سرا"، فلعلها لم ترد إزعاج المعزّين. وفى رأى آخر، خشت أن يكون هناك أعداء للمسيح وسط المعزّين لم تشأ أن تخبرهم بقدومه. أما مريم، فلما سمعت، كانت استجابتها سريعة.

          وهذا ما نحتاجه جميعا، أن تكون استجابتنا سريعة لنداءات المسيح لنا، فكثيرا ما نخطئ بتأجيل الاستجابة، فتضيع العديد من فرص التمتع بلقاء شخص المسيح الحبيب.

ع30-32: لم يدخل المسيح القرية أو بيت لعازر، فقد كان هدفه واضحا، وهو إقامة لعازر، وليس التعزية فى موته. وخروج مريم مع مرثا من البيت، كان ملفتا لنظر اليهود والمعزّين، فقاموا هم بدورهم تابعين لهما، ظانين ذهابهما للقبر مثل عادة الكثيرين فى البكاء عند القبور. ولعل هذا كان تدبيرا إلهيا أن يخرج المعزّين ورائهما، حتى يشاهدوا هذه المعجزة الفريدة. وعندما قابلت مريم المسيح، تحدثت بمثل ما قالت مرثا قبلا (ع21). ولكن سجودها عند رجليه، هو دليل على إكرامها جدا لشخص المسيح، وأيضا انسحاقها بالحزن على عدم وجوده قبل وفاة أخيها.

ع33-35: كان منظر بكاء مريم والمعزّين المجتمعين معها منظرا مؤثرا للغاية، خاصة وأنه كان يمس إنسانا قريبا من قلب المسيح. ولما كان المسيح إلها كاملا، بقدرته أن يقيم لعازر، إلا أنه أيضا إنسانا كامل،ا يحمل كل المشاعر الرقيقة بداخله. وتعبير "انزعج بالروح"، يفيد باليونانية لم يكن راضيا أو مرتاحا. وكلمة "اضطرب"، تفيد باليونانية أيضا معنى القشعريرة.

          وهى صورة توضح معنى إحساس المسيح بنا، فهو رقيق القلب، يشعر بآلام أولاده، يتألم ويتضايق ويشاركهم أحزانهم (إش 63: 9). وهذا فى حد ذاته، يعطى عزاءً لكل من هو فى تجربة أو ضيق.

ولعلنا نتعلم أيضا من هذا الموقف، المشاركة الإيجابية المسيحية لمن هم فى ضيقة أو حزن شديد "بكاء مع الباكين" (رو 12: 15)، ولا نستهين أو نقلل من مشاعر الناس عند بكائهم، بل بكائنا نحن أيضا ليس خطأ، طالما لم يتعد حدود إيماننا ورجائنا فى القيامة بعد الموت. فالحزن الخاطئ، والذى يحذرنا منه الله، هو حزن من لا رجاء لهم (1 تس 4: 13).

"بكى يسوع": جاءت تعبيرا عن كل ما جاش فى قلبه، وحنو مشاعره.

          ولعلنا نذكر الكلمات التى تصلى بها الكنيسة فى أوشية المرضى: "رجاء من ليس له رجاء، معين من ليس له معين، عزاء صغيرى القلوب، ميناء الذين فى العاصف."

ع36-38: يستكمل القديس يوحنا وصف المشهد لنا، فينقل تعليقات الجمع. فالبعض، عندما رأوا دموع الرب يسوع، تأثروا بدرجة حب الرب لشخص لعازر. والبعض الآخر، حمل كلامه تشكيكا فى قدرة المسيح، بمعنى أنه لو كان صحيحا ما سمعوه عن تفتيحه لعينى أعمى، أفلم يكن قادرا أيضا على إنقاذ وشفاء صديقه بالأولى؟!

"انزعج يسوع أيضا": شعر بعدم ارتياح، نتيجة المناخ المحيط بصفة عامة، وبسبب اقترابه من مكان القبر، وكذلك أحاديث اليهود فى (ع36، 37). وكان القبر عبارة عن مغارة فى الصخر، كاعيتاد الناس فى دفن موتاهم، إما فى مغائر طبيعية أو منحوتة، ويغلقونها بعد ذلك بحجارة.

ع39: "ارفعوا الحجر": هل الذى استطاع أن يقيم الميت بالكلمة، لم يكن فى مقدوره أيضا أن يحرك الحجر؟! ولكن، هذا هو أسلوب الله الذى يسمح للإنسان بالمشاركة فى العمل. فما هو فى قدرة الإنسان، لا يفعله الله. وإشراك الإنسان حدث أيضا فى ملء الأجران بالماء فى عُرس قانا الجليل (ص 2: 7)، وحدث أيضا فى جمع السلال فى معجزة إشباع الجموع (مت 15: 37؛ مر 8: 8).

          وإشراك الله للإنسان، تجعل منه شاهدا لعمل الله وتدابيره. وهى ميزة يتمتع بها من يعمل فى حقل خدمة الرب، إذ يعاين أعماله عن قرب، ويشترك فيها. كذلك نتعلم، وإن كان الخلاص عملا إلهيا فى المقام الأول، إلا أن الإنسان أيضا له دور فى هذا الخلاص بأعماله، ومشاركة نعمة الله المخلصة بجهاده.

"له أربعة أيام": أى استحالة القيامة بعد التحلل والتعفن. وما جدوى رفع الحجر إلا إثارة أحزان لا داعى لها؟

          أما المعنى الروحى، فالحديث هنا عن الإنسان الذى مات فى الخطية، حتى تحللت إرادته أمامها، وصارت أعمال شهوات الجسد نتنة؛ فحتى هذا الإنسان الذى يظن الجميع إنه لا قيامة له، له قيامة بالتوبة التى تحوّل عفن ونتن الخطية إلى طيب غالى الثمن.

ع40: فى (ع4)، يشير السيد إلى أن مرض لعازر ليس للموت، بل لمجد الله. وهنا، يعلن السيد المسيح، وبقوة، هذا المجد، أو على الأقل أحد صور مجد الله فى القدرة المطلقة، وانتصار الابن على الموت، فى مقدمة لقيامته هو. وأما تعبير "إن آمنت"، فإن المسيح يربط معاينة المجد بشرط الإيمان. فبدون إيمان، لا يمكن إرضاؤه. ولهذا يقول القديس متى: "ولم يصنع هناك - الناصرة - قوات كثيرة لعدم إيمانهم" (13: 58).

ع41-42: قاموا برفع الحجر، ومشاعر الفضول تغلبهم فيما هو مُزْمَع أن يتم؛ فتأرجح المشاعر هنا بين الشك واليقين عند الناس، نكاد نقول شيئا طبيعيا، مع عدم الإعلان النهائى للاهوت المسيح، ووجود مؤيدين مؤمنين ومعارضين فى الجمع المحيط. يتوجه المسيح بعد ذلك لحديث مع الله الآب، والغرض من هذه الصلاة أو الحديث المسموع، هو "ليؤمنوا أنك أرسلتنى". فالمسيح يريد استغلال هذا الحدث الفريد، لإعلان ما سبق إعلانه كثيرا فى إنجيل يوحنا، فى أنه من الآب وفى الآب، والإرادة واحدة بينهما، وليرد على من قالوا سابقا إنه ببعلزبول يصنع معجزاته (مت 12: 24؛ مر 3: 22؛ لو 11: 15). فهنا، يعلن أن الأساس هو الله وإرادته العاملة فى ابنه.

          وهناك غرض آخر لنا نحن، وهو أن المسيح يعلمنا مبدأ الصلاة الدائمة، وخاصة قبل الشروع فى أى عمل. والمسيح يقدم أيضا فى صلاته عنصر الشكر، الذى تعلمنا الكنيسة دائما أن نبدأ به كل صلواتنا.

"سمعت لى... كل حين تسمع لى": يبرز هذا القول التوافق الدائم والمستمر بين طِلبة الابن واستجابة الآب، فعمل الابن الأول هو الطلب من أجل خليقته، من خلال دمه المبذول، والآب الواحد مع الابن فى الإرادة والجوهر، يقبل دائما طلبته. ويؤكد المسيح هذا المعنى فى حديثه مع تلاميذه "مهما سألتم باسمى، فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن، إن سألتم شيئا باسمى فإنى أفعله" (ص 14: 13، 14).

ع43: "صرخ بصوت عظيم": خرج صوت المسيح عظيما مدويا، يزلزل أركان الهاوية، ويأمرها بفتح أبوابها لخروج روح لعازر منها، ويهزم الموت الجاسم على كل البشر. وأمر لعازر بالقيامة، ولم يأمره أن يقوم باسم الآب، ليبيّن أن ما يفعله الآب، يفعله الابن أيضا بنفس القدرة والسلطان.

ع44: يا ترى، كم كانت دهشة وذهول الحاضرين أمام هذا الميت القائم، بعد عفن وتحلل دام "أربعة أيام"؟! إلا أن المسيح يتدخل بصوته مرة أخرى لإفاقة الجمع من ذهوله، ويأمر بعضا منهم أن يحلّوه ويدعوه يمضى.

          وكما سبق وأعطى المسيح دورا للإنسان فى رفع الحجر، فها هو أيضا يتعهد النفس القائمة من موت الخطية فى عهدة الكنيسة كهنة وخداما. فقد قام بعمله الكفارى معها، ومنحها مغفرة الخطايا والقيامة، ولكنه ترك جزء من العمل على عاتق الكنيسة، التى تتابع فى رعايتها إتمام عمل الطبيب الشافى. فعند إقامته الصبية، أمر أن تُعطَى لتأكل (لو 8: 55). وقد أودع المسيح كل طعامه الروحى فى كنيسته، فمن تاب ولم يتناول باستمرار من طعام الحياة، يموت إلى الأبد (ص 6: 53).

ع45-46: لا زال الموقف كما هو بين من يقبل عمل الله ويؤمن به، وبين من يشاهد وينكر. وهو ما قاله المسيح فى إنجيل معلمنا لوقا: "ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون" (16: 31). فالمجموعة الأولى، سرت قيامة لعازر كالتيار فى أجسادهم، فعظم إيمانهم بالمسيح. أما الآخرون، فكان انتمائهم الأرضى وخوفهم على مصالحهم، حائلا وقف دون إيمانهم بهذا الحدث العظيم.

          يا إلهى، افتح بصيرتى وقلبى لأرى أعمالك، ولا تجعل من عقلى أو أهواء قلبى عائقا يقلل من إيمانى بكل أعمالك.