تفسير إنجيل اليوم

ع35: يقدم السيد المسيح نفسه كما قدم نفسه للمرأة السامرية، فهو ماء حى وخبز حياة، أى فيه كل احتياجات الإنسان للحياة، وبدونه، لا يبقى سوى الجوع والعطش اللذين لا يستطيع العالم بكل ما فيه تعويضهما. وعبارة "أنا هو"، استخدمها المسيح مرارا: "أنا هو نور العالم "، "أنا هو الباب"، "أنا هو الطريق "، "أنا هو الحق"، "أنا هو الراعى الصالح"، "أنا هو الكرمة"، "أنا هو القيامة"، "أنا هو الحياة". وكذلك فى تأكيد أنه الوحيد الذى يسد كل احتياجات النفس الإنسانية، مهما اختلفت مطالبها أو حاجتها. كذلك تعبير "أبدا"، يقابل تعبير "إلى الأبد" فى حديثه مع السامرية. فالمسيح إشباعه ليس قاصرا على تنوع احتياجات الإنسان، ومطالبه الجسدية والنفسية والروحية، بل هو إشباع مستمر أبدى، أى إشباع لا نهاية له.

أما مسئولية الإنسان فى حصوله على هذا الإشباع، فقد حددها السيد المسيح نفسه بقوله: "من يقبل إلىّ". فالمسيح إذن يقدم ويعرض على الإنسان عطاياه، دون أن يفرض نفسه، فهو يقف ويقرع الباب، دون أن يفتحه عنوة، حتى يكون للإنسان الإرادة فى الاختيار، وهى مسئولية جسيمة، لأن من لا يقبل إلى المسيح، يهلك جوعا وعطشا، ويبقى فى عذاب الاحتياج للإشباع دون الحصول عليه...

ع36-37: "رأيتمونى ولستم تؤمنون": أى أنه، بالرغم من استمرار إعلان المسيح عن نفسه بطرق شتى، لا زالت عيون اليهود فى حالة من العمى الروحى، وذلك لأنهم لا يطلبون شخص المسيح لذاته، بل لسبب أكلهم من الخبز، والشبع الجسدى (ع 26). وهكذا الإنسان فى كل أحواله، إذا كان أساس علاقته بالله هو النفع المادى فقط، لا يعتبره الله مؤمنا، حتى وإن ادعى هو ذلك.

"كل ما يعطينى الآب": نسب السيد المسيح فعل العطاء والإرسال للآب، والقبول وعدم الرفض للابن، فالابن يقبل كل من يجئ إليه، لينال الفداء من خلال الإيمان به أولا. والآية أيضا تحتمل معنى قبول الأمم فى هذا الفداء المجانى، فاليهود رأوه ولم يؤمنوا. أما من أقبل إليه فلا يرفضه، ولا يخرجه خارجا. وكيف هذا، وهو محب البشر، الحانى، الذى يقبل فى حبه كل العالم، وهو المتجسد والمصلوب لأجلنا جميعا. يا له من رجاء يُعطَى لكل الخطاة فى حضنه المفتوح دائما.

          أشكرك يا إلهى على كلماتك المشجعة لنفوسنا الضعيفة... فكلما أتينا مقرين ومعترفين بخطايانا، وقرأ الكاهن لنا صلاة التحليل، تذكرنا وعدك الصادق بأن كل من يقبل إليك لا ترده خارجا، بل تثبته فى محبتك، وتنقيه ليأتى بثمر أكثر.

ع38-39: الكلام هنا استمرار لمعنى الآيات السابقة، فالمسيح يؤكد أن سبب نزوله من السماء، أى تجسده، هو إتمام الإرادة الواحدة لله، فالآب مشيئته خلاص الجميع، والابن هو متمم هذه المشيئة بموته وفدائه. فكل ما أعطاه الآب للابن لا يضيع منه شئ، بل يحفظ فى اسم المسيح ليوم مجيئه الثانى، والقيامة من الأموات.

ع40: يستمر المسيح فى شرح وتوضيح إرادة الآب ومشيئته، وهما، ببساطة، الإيمان بابنه الوحيد، الذى ليس باسم آخر سواه يمكن أن نخلص (أع 4: 12). ويمكن استخلاص الحقائق الإيمانية التالية:

(1)      أن الخلاص أساسه الإيمان بالمسيح، وهذا الشرط كرره المسيح بنفسه، وكذلك الرسل، مرارا دون تنازل. ولهذا، فالكنيسة تؤمن أن الخلاص متاح للعالم كله، ولكن شرطه الأول الإيمان بالمسيح. ولهذا الوضوح فى اقوال المسيح، ترفض الكنيسة بدعة عمومية الخلاص (أى خلاص الناس، حتى بدون إيمانهم بالمسيح).

(2)      أن الإيمان، وإن كان هو الشرط الأول، إلا أن هناك أمورا أخرى بدونها يبطل الإيمان، وسوف تتناول الأعداد القادمة من نفس الأصحاح شرطا آخر للخلاص. ولهذا، فالكنيسة عندما تفسر الكتاب المقدس، لا تعمد على آية واحدة، بل تأخذ معنى الآيات ككل.

ع41-42: وقف وضع المسيح الجسدى – بحسب النسب – عثرة أمام اليهود فى قبول لاهوته، ولم يقبلوا ما كرره السيد فى 3 آيات سابقة، وهو أنه الخبز النازل من السماء (ع 33، 35، 38). فكان رد فعلهم، التذمر عليه، والاستخفاف بكلامه، وعدم تقبلهم لفكرة التجسد.

"يسوع ابن يوسف": هذا ما كان يعرفه اليهود، بإدراكهم الجسدى، عن شخص المسيح. وقد كان القديس لوقا دقيقا عندما أشار لهذا النسب فى إنجيله قائلا: "وهو على ما كان يظن" (لو 3: 23)، أى الشائع وليس الحقيقى.

ع43-45: يشرح السيد المسيح هنا قصور العقل البشرى وحده على الإيمان وتبعيته للمسيح، فلابد أن يجتذب الآب الإنسان بفعل هبة الإيمان الإلهية، وبتعليم الإنسان من خلال الوحى الإلهى. والتعبير الذى استخدمه السيد هنا: "الجميع متعلمين من الله"، هو ما جاء على لسان النبيين (إش 54: 13؛ إر 31: 33-34)، فى إشارات واضحة إلى الدور الإلهى فى تعليم الإنسان لأسرار الإيمان، والذى بدونه، لا يستطيع الإنسان أن يُقبل إلى المسيح.